السعوديّة تُشعِل فتيلي حربين في آنٍ واحد.. الأولى داخليّة ضِد الأمراء “الانقلابيين” والثّانية نفطيّة ضِد روسيا
عبد الباري عطوان
تحتل المملكة العربيّة السعوديّة العناوين الرئيسيّة هذه الأيّام لإعلان قيادتها حربين خطيرين، الأولى داخليّة، عندما أقدم الأمير محمد بن سلمان الحاكِم الفِعلي، بإجراء حملة اعتقالات شمِلت العديد من الأُمراء الكِبار، والصّغار لإحكام قبضته الحديديّة على السّلطة، و”تحييد” جميع خُصومه، والثّانية عالميّة، تتمثّل في تخفيضه أسعار النّفط السعودي في حُدود عشرة دولارات للبرميل ومن طرفٍ واحد، في مُحاولةٍ لإخضاع روسيا لشُروطه وإجبارها على الالتزام بقرار اتّخذته منظّمة "أوبك” بتخفيض الإنتاج بحواليّ 1.5 مليون برميل يوميًّا لرفع أسعار النفط التي تراجعت بسبب انخِفاض الاستِهلاك نتيجة انتشار فيروس كورونا، خاصّةً في الصين أبرز الدول المُستَهلِكَة والمُستَورِدَة.
أسعار النفط، وبسبب هذا القرار السعوديّ "الانتقاميّ” من روسيا التي أعلن الأمير بن سلمان الحرب عليها، انهارت بنسبة 30 بالمِئة تقريبًا اليوم الاثنين، وانخفض سِعر البرميل إلى 30 دولارًا، ويتوقّع الخبير النفطيّ الكويتيّ عبد الصمد العوضي أنّ سِعر البرميل قد ينخفض إلى 25 دولارًا في الأيّام المُقبلة إذا استمرّت هذه الحرب، إن لم يَكُن أقل.
جميع الخُبراء لا يتوقّعون "هُدنةً” في هذه الحرب، لأنّ روسيا مُصمِّمةٌ على رفض أيّ تخفيض للإنتاج، لأنّها تخوض حربًا مُوازيةً ضِد النّفط الصخريّ الأميركيّ الذي زاد مُعدّل إنتاجه في الفترة الأخيرة على حِساب اتّفاقات منظّمة "أوبك” مع الدول الأُخرى غير الأعضاء فيها، على تخفيض الإنتاج، ويعتقد صانع القرار الروسي أنّ انخِفاض أسعار النّفط سيُؤدِّي إلى إفلاس شركات النّفط الصّخري بسبب ارتِفاع تكاليف إنتاجه، وخُروجها من دائرة المُنافسة بالتّالي.
***
هذه هي الحرب الثّانية التي تخوضها السعوديّة ضِد روسيا، الأُولى كانت عام 2014، وبإيعازٍ من أميركا، عندما قرّرت المملكة زيادة إنتاجها لتخفيض الأسعار لإلحاق أضرار بالاقتصادين الروسيّ والإيرانيّ، فهبطت الأسعار من 120 دولارًا للبرميل إلى 30 دولارًا، ولم تقم لها قائمة من حينها، وخَسِرت دول الخليج الفارسي مِئات المِليارات نتيجة تراجع عوائِدها النفطيّة بينما كانت خسائر إيران وروسيا مُحتَملةً، ولم يحدث الانهيار المأمول في اقتصاديّاتها، وخرجت البُلدان من الأزَمة أكثر قوّةً.
صانع القرار السعودي يعتقد أنّ روسيا ستصرخ أوّلًا، لأنّ تكاليف إنتاج البرميل الروسي ضعف، أو أكثر من إنتاج نظيره السعودي (3 دولارات للبرميل) ولكنّه لا يُدرِك أنّ روسيا تملك اقتصادًا أكثر تنوُّعًا، ولا تعتمد على النّفط وعوائده إلا بنسبةٍ محدودةٍ على عكس خصمها السعوديّ الذي تُشَكِّل العوائد النفطيّة حواليّ 90 بالمَئة من الدّخل الوطنيّ.
السعوديّة ونظيراتها في مجلس التعاون الخليجيّ كانت الأكثر تضرّرًا من حالة الفوضى في أسواق الطاقة وانخِفاض أسعار النّفط، فقط انهارت مُعظم بُورصاتها بمُعدّلات وصلت اليوم إلى 10 بالمِئة، حتى أنّ الكويت اضطرّت إلى وقف التّعامل في بُورصتها، أمّا بُورصة قطر فعانت من أكبر انخِفاض في يَومٍ واحدٍ في تاريخها.
إذا صدقت نُبوءات الخُبراء النّفطيين التي تقول إنّ الاستهلاك العالميّ من النّفط قد يتناقص بحُدود 750 ألف برميل يوميًّا (الآن حوالي 75 ألف برميل) بسبب كارثة انتشار فيروس كورونا، فإنّ هذا سيُؤدِّي إلى صعوباتٍ اقتصاديّةٍ ضخمة لدول الخليج الفارسي النفطيّة، وتضاعف العُجوزات في ميزانيّاتها، وتراجع مُعدَّلات التنمية فيها، وقد يضطر مُعظمها للّجوء إلى الاحتِياط المالي أو صناديق الأجيال القادمة واستِنزافها كُلِّيًّا، وفرض ضرائب دخل عالية على مُواطنيها، ورفع أسعار الخدمات العامّة وإلغاء مجّانيّتها، وإجراء تخفيض هائل في ميزانيّاتها وإنفاقِها العام، واتّخاذ سياسات تقشفيّة صارِمَة.
الكثير من المُراقبين يعتقد أن هذا القرار السعودي بتخفيض الأسعار من جانبٍ واحد، ودون التّنسيق مع أشقائها الخليجيين، وأعضاء منظّمة أوبك الآخرين، كان قرارًا "مُغامِرًا” من حيث توقيته قد تترتّب عليه نتائج عكسيّةً، تمامًا مِثل نظيره عام 2014، خاصّةً أنّ الاستِهلاك العالميّ من النّفط يتراجع هذه الأيّام بنسبٍ عاليةٍ من جرّاء توقّف شِبه كامِل لقِطاع الطّيران الذي خَسِر حواليّ 120 مِليار دولار في الأيّام القليلة الماضية بسبب انخِفاض عدد المُسافرين خوفًا من الكورونا، وإفلاس العديد من الشّركات.
شركة أرامكو خَسِرت حتّى الآن، وبسبب الانهِيارات الماليّة العالميّة، وتراجع استِهلاك النّفط، حواليّ 248 مِليار دولار من قيمتها، وتراجعت أسعار أسهمها بحواليّ 10 بالمِئة بالمُقارنة مع سِعرها عندما جرى طرحها في الأسواق أو ما يُعادل 8.5 دولار للسّهم.
***
رؤية الأمير محمد بن سلمان 2030 لتنويع مصادر الدّخل، ومشروع إقامة مدينة "نيوم” الترفيهيّة على شاطِئ البحر الأحمر شِمال غرب المملكة التي تحتاج إلى استِثمارات بـ 500 مليار دولار قد يكونان من أبرز المُتضرِّرين في حالِ استمرار حالة الانهيار في أسعار النّفط والأسواق الماليّة العالميّة.
مِن المُفارقة أنّ الدول الفقيرة في العالم ومن ضِمنها الدول العربيّة غير المُنتجة للنفط، ستكون المُستفيد الأكبر من انخِفاض أسعار النّفط، لأنّ بند الطاقة يحتل نسبة كبيرة في ميزانيّاتها العامّة.
صندوق النقد الدولي تنبّأ في تقريرٍ له الأُسبوع الماضي أنّ الدول الخليجيّة، أو مُعظمها، قد يُواجِه الإفلاس في عام 2034 بسبب تراجع استِهلاك النّفط إلى حُدوده الدنيا بسبب توقّف إنتاج السيّارات المُعتَمدة عليه كُلِّيًّا، واللّجوء إلى مصادر بديلة للطّاقة مِثل الرّياح والطّاقة الشمسيّة والذريّة، والسيّارات الكهربائيّة.
حالة الفوضى الحالية في أسواق النفط، وتراجع الإنتاج بمُعدّلات كبيرة بسبب فيروس "الكورونا” ربّما يُؤدِّي إلى تقديم موعد حالة الإفلاس هذه، واللُّجوء إلى الديون، وفرض الضرائب، والاقتراض من صندوق النقد الدولي، لتراجع العوائد النفطيّة، وغِياب أيّ مصادر بديلة للدّخل، وحينها ستنتهي الدولة الريعيّة، وحالة البذَخ والتّرف، وستبدأ مرحلة مُطالبة الشّعوب بحُقوقها السياسيّة، والشّراكة في السّلطة وحُكم البِلاد، لأنّ العقد الاجتماعيّ والسياسيّ بين الشّعوب ومُعظم الأُسَر الحاكمة الذي يَحكُم العُلاقة الحاليّة سيتآكل وينقرض.. واللُه أعلم.