اليونان رأس أوروبا
د.وفيق إبراهيم
تحاول الدول الأوروبية الخروج من هيمنة السياسة الأميركية ومصالحها، فتتقدم مرة، لكنها سرعان ما تعود الى الانصياع لها وتأييد مواقفها في كامل الأزمات الدولية من دون استفسار او مناقشة.
فلا تزال أوروبا تعتقد أنها ضعيفة وتحتاج الى الحماية الأميركية الدولية وخدمات حلف الناتو، فهل هذا صحيح؟
الصعود الأميركي الذي تكرّس مع الحرب العالمية الثانية في 1945، على حساب تراجع دوري لكل من فرنسا وانجلترا أنتج حلفاً غربياً بزعامة أميركية، والذريعة كانت ما سمّوه في تلك المرحلة الخطر السوفياتي الشيوعي، فاستتبع الأميركيون أوروبا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في إطار صراع ثنائي سوفياتي ـ أميركي شمل في حينه معظم بقاع العالم، حتى أن النفوذ الاقتصادي الأوروبي في العالم أصبح يمرّ من خلال الدور الأميركي كذلك التدخلات العسكرية الأوروبية التي كانت تنتظر اشارة أميركية حتى تنطلق نحو أفريقيا والشرق الاوسط وجنوب شرق آسيا.
هذا لا يعني عدم وجود حالات تمرد على هذا الاستبداد الأميركي قادته فرنسا مرات عدة وفشلت، أما المانيا فلم تفعل لأنها لا تزال تعاني من معاهدة أرغمتها منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية على القبول بقوات أميركية على أراضيها. وما كان لانجلترا أن تقف في وجه الأميركيين وهي التي تعتبر أميركا من إنتاج انجلوساكسوني تربطها بها علاقات نسب استتباع كامل، ومحاولة التقاط الفتات التي تتركه الإمبراطورية الأميركية.
هذه المعادلة لم تعُد مقنعة، فالاتحاد السوفياتي ولّى إلى غير رجعة منذ 1989، ووريثته روسيا لم تعد تمثل خطراً على أوروبا، كما أن الصين لا تمتلك مشروعاً للهيمنة العسكرية.
إلا أن هناك تحولاً وحيداً يحدث منذ ثلاثة عقود تقريباً ويتعلق بإصرار أميركي على مسألتين، اعادة تقسيم الشرق الأوسط على نحو يؤدي الى سيطرة أميركية نهائية عليه، منتجاً في الوقت نفسه إنهاء القضية الفلسطينية ومؤسساً حلفاً شرق أوسطياً معادياً لإيران والصين وروسيا، على قاعدة إبقاء أوروبا قارة ثانوية تنتظر ما يتركه الأميركي لها او يعَّفُ عنه.
هنا تجب الاشارة الى محاولات أوروبية من اثنتين من قواها وهما فرنسا والمانيا للتسلل الى الشرق الاوسط عموماً وإيران خصوصاً، محاولين الاستفادة من عودة روسيا الى مسرح الصراع الجيوبوليتيكي مع الأميركيين.
لكنهما وما أن رفعت لهم واشنطن العصا حتى انسحبتا من العلاقات الاقتصادية مع إيران، خشية خسارة الاسواق الأميركية، مواصلتين سياسة التماثل مع واشنطن في الازمات السورية والعراقية واليمنية محاولتين تثبيت مواطئ قدم لهما في ليبيا بتأييد أميركي، وذلك بتوزيع متفق عليه مسبقاً لمواقف الدول الأوروبية فقسمٌ منها يقف مع السراج وقسم آخر مع أعدائه من جماعة حفتر، وبذلك يؤمن الأوروبيون مكانة لهم في ليبيا يقتسمونها بعد انتهاء المعارك على المستوى الاقتصادي؛ وهذا هو المهم.
ان سورية هي الدليل عى هذه الانصاعية الأوروبية الدائمة للأميركيين، فتركيا التي تحتل ثلث قبرص الأوروبية وتقيم عليها دولة تابعة لتركيا، تواصل ابتزاز أوروبا بإطلاق النازحين السوريين اليها، وتتدخل في الشؤون الالمانية باستعمال ملايين العاملين الاتراك المجنسين فيها في انتخاباتها الداخلية، وتتمرّد على فرنسا وتسخر من انجلترا، فيبدو أنها لا تأبه بهؤلاء بل تبتزهم بالأسلوب نفسه وهو التلويح بفتح الطرق للنازحين السوريين كي يصلوا الى المدن الأوروبية.
وهذه سياسة يواصل الرئيس التركي اردوغان استخدامها لتحصيل أموال أوروبية بزعم رعاية النازحين السوريين ومنعهم من الزحف نحو أوروبا.
لكن القارة العجوز تمكنت مؤخراً في استيعاب تهديداته بإهمالها حيناً وتمويله حيناً آخر، كما تبنت سياسة عدائية لأردوغان في مساعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو لجهة مشروعه التوسعي في سورية والعراق.
هناك مؤشرات تكشف عن مدى الاستتباع الأوروبي لأميركا، فحين يكون الصراع تركياً ـ كردياً تقف أوروبا مع الكرد، لأنهم جزء من المشروع الأميركي وآلية من آلياتهم الأخيرة في الشرق الاوسط، اما عندما يصبح الصراع تركياً ـ سورياً، فتقف أوروبا مع تركيا وتتناسى التناقضات العميقة بينهما وذلك تلبية للاوامر الأميركية.
لذلك فها هو أردوغان اليوم يفتح الطرق للنازحين الى أوروبا في محاولة ضغط لا تريد هذه المرة ابتزاز الأموال فقط بل الضغط لتأمين دعم أوروبي يقنع الأميركيين بالتدخل المباشر إلى جانب تركيا في الحرب السورية لتحرير إدلب المحتلة من الأتراك وإرهابييهم، وذلك فقط لتلبية المطالب الأميركية.
وحدها اليونان تمردت على هذا الاجماع الأوروبي الانصياعي، فمزّق ممثلها في الاتحاد الأوروبي العلم التركي داعياً إلى قتال تركيا التي تحتلّ قبرص وتحاول سرقة الغاز في البحر الأبيض المتوسط، وتقذف بالنازحين السوريين والأفغان والايغور والطاجيك الى حدودها.
الأمر الذي جسَّد اعتراضاً يونانياً هادراً فضح التواطؤ الأوروبي المستجيب للهيمنة الأميركية، ومنذراً بحرب في البحر المتوسط على تركيا التي تحاول الهيمنة على الغاز في قبرص وسواحلها وسواحل ليبيا وأعماق البحر من ناحية اليونان ومصر وربما سورية ولبنان، فأردوغان يتعامل مع المياه المتوسطية وكأنها ملك لبلاده، علماً أن تركيا البرية وسواحلها البحرية لا تحتوي أي كميات من الغاز.
فلماذا تبالغ أوروبا في دعمها في احتلال الأراضي السورية والعراقية؟
وماذا يمكن لأوروبا أن تجنيه من التصاقها بالمواقف الأميركية؟ وهل تعتقد أن المشروع الأميركي يقبل بأي دور اقتصادي لها إلى جانبه في حال نجاحه؟
هذه أسئلة كثيرة توجد الإجابة عنها عند مندوب اليونان الأوروبية الذي لم يكتفِ بتمزيق العلم التركي، بل قام بسحقه تحت قدميه مهدداً أوروبا بإمبراطورية عثمانية جديدة هي قيد الولادة حالياً، هذا إذا لم تقف في وجه هذه العدوانية الأردوغانية المستمرة بالصخب والضوضاء وتحتاج الى موقف أوروبي عملي وصارم لإسكاتها عبر دعم موقف الدولة السورية التي تعمل على تحرير أراضيها من المحتل العثماني، بذلك يحق لليونان ان تكون رأس أوروبا كما كانت في المراحل الإغريقية القديمة.