أميركا تعترف بهزيمتها وترفع رايَة الاستِسلام بتوقيعها اتّفاق الدوحة للسلام في أفغانستان؟ طالبان تحتفل وتستعدّ لإقامة إمارتها الإسلاميّة مُجدَّدًا.. هل سيتّعظ العرب من هذا الدّرس الطالبانيّ؟ وكيف تحقّق هذا الانتصار التاريخي؟
عبد الباري عطوان
توقيع اتفاق سلام في الدوحة اليوم بين الحكومة الأميركيّة مُمثّلةً بمايك بومبيو، وزير الخارجيّة، وحركة طالبان ونائب رئيسها الملا عبد الغني برادر، يعني اعتراف إدارة الرئيس دونالد ترامب بالهزيمة، واحتفال الحركة الطالبانيّة السلفيّة بتحقيق الانتصار بعد مُقاومة شرسة استمرّت 18 عامًا، والاستِعداد لإعادة بناء إمارتها الإسلاميّة الأفغانيّة في كابول للمرّة الثانية، ونيل الاعتراف الدولي بها هذه المرّة.
الاتّفاق الذي تصفه الإدارة الأميركيّة بأنّه "تاريخي” هو بمثابة ورقة التوت، لتغطية الهزيمة، والخُنوع لمُعظم، إن لم يكن كُل، شُروط الطرف المُنتَصِر، أيّ حركة طالبان، التي كانت هذه الإدارة، وكُل الإدارات التي سبقتها، ترفض التّفاوض معها باعتبارها حركةً إرهابيّةً، وسُبحان مُغيّر الأحوال.
بُنود اتُفاق الدوحة ما زالت غامضةً، وما تسرّب منها حتى الآن بإعلان حالةٍ من التهدئة، لتأمين انسِحاب 13 ألف جندي أميركي بشكلٍ مُتدرّج من أفغانستان، وتوقّف حركة طالبان عن تقديم أيّ دعم للجماعات الإرهابيّة غير الأفغانيّة، في إشارةٍ إلى تنظيم "القاعدة”، وفتح حوار بين حركة طالبان والحُكومة الأفغانيّة التي، ويا للمُفارقة، لم تكن مُمثّلةً في حفل التوقيع، مثلما جرى تغييبها بالكامل عن جولات المُفاوضات، وذلك للتوصّل إلى تسويةٍ سياسيّةٍ تُنهي الحرب الأهليّة، فهكذا تُعامل أميركا عُملائها، أيّ الاحتِقار الكامِل.
حركة طالبان أذلّت أميركا بصُمودها، وقِتالها الشّرس، ونفسها الطّويل، سواءً في ميادين المُواجهة، أو على مائدة المُفاوضات، واختراقها للقوّات الأميركيّة والحُكوميّة معًا، وانضمام أكثر من 60 ألف جندي حُكومي إلى صُفوفها بأسلحتهم وعتادهم الحربيّ، أنفقت الإدارة الأميركيّة أكثر من 26 مِليار دولار على تدريبهم وتسليحهم، حسب التّقديرات الأوّليّة، فالوطنيّة والشّرف مُتأصِّلةٌ في جينات قبيلة "البشتون” التي ينتمون إليها.
2500 جندي أميركي قُتِلوا في هذه الحرب التي كَلّفت دافع الضرائب الأميركي أكثر من تريليون دولار حتى الآن، ولم تستطع القوّات الأميركيّة المدعومة بقوّاتِ حلف الناتو السّيطرة إلا على أقل من 20 بالمئة من الأراضي الأفغانيّة مُنذ احتلالها لأفغانستان في نهاية عام 2001.
أميركا وعدت الشعب الأفغاني بالمنّ والسلوى، والديمقراطيّة والازدهار الاقتصادي، وتحويل بلاده إلى "نموذج” في هذا الخُصوص، تحسده عليها كُل الشعوب الأخرى، وشاهدنا الإعلام الأميركي والغربي عُمومًا، ينشر ويَبُث أشرطة مُصوّرة لمُواطنين أفغان يتدافعون أمام محلّات الحِلاقة في كابول العاصمة لحلق ذُقونهم، ولكنّ الآن وبعد انسِحاب القوّات الأميركيّة ستعود أفغانستان إلى ما كانت عليه قبل عشرين عامًا، ولا نعتقد أنّ السلام سيعود إلى هذه البِلاد، وأنّ الحرب الأهليّة ستتوقّف، فمع من سيتفاوض الطالبان لإنهاء الحرب الأهليّة، مع أشرف غني، الرئيس الحالي، أم عبد الله عبد لله، مُنافسه الطاجيكي الشّرس، فكُل منهما يدّعي الانتصار في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، ويُشكِّل حُكومةً خاصّةً به، تمامًا مِثلما هو الحال في ليبيا.
مُستَقبل أفغانستان يتّسم بالغُموض، ولا يستطيع أحد أن يتنبّأ بالصّورة التي ستكون عليها البِلاد بعد انسِحاب القوّات الأميركيّة، والشّيء الوحيد الواضِح هو تحوّل أفغانستان "رسميًّا” إلى فيتنام أخرى، وهزيمة أميركا ومشروعها على أرضها، وانسِحابها مُهانةً مذلولةً، وذيلها بين ساقَيها، ولعلّ العرب، العارِبَة والمُستَعرِبَة، منهم على حدٍّ سواء يستفيدون من هذه التّجربة الأفغانيّة، فأميركا وحليفتها إسرائيل بالطّبع، ليست مُحصّنتين، ويُمكن هزيمتهما إذا ما وُجِد الرّجال الرّجال وإرادة الصّمود والقِتال.
الحركة الطالبانيّة التي التقينا العديد من رِجالها وقادتها على الأرض الأفغانيُة، انتصرت لأنّ مُؤسّسها الملا عمر كان يتنقّل على درّاجةٍ، وليس في سيّارةٍ فارهة، وطائرات خاصّة بعشَرات الملايين من الدّولارات، ولا يُقيم في قُصور، ولم يُغادِر بلاده مُطلَقًا، وإن غادرها فللعِلاج في باكستان، وهذا أمرٌ غير مُؤكّد، وأنصارها ومُقاتلوها لا يَعرِفون غير الأرز والمرَق كوجبات غذائيّة والاستثناءات قليلة، وكلّهم يتطلّعون إلى الشهادة لاستعادة كرامة بلدهم وعزّتها، وتحريرها من قوّات الاحتِلال الأجنبي مهما طال الزّمن وتضخّمت التّضحيات.
نتمنّى على الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس، والمُطبّعين العرب، أن يقرأوا تاريخ المُقاومة في هذا البلَد، وصُمود قِيادتها ورِجالها، لعلّهم يتّعظون، ولكنّهم لا يقرأوا ولا يتّعظوا، وإذا سَمِعوا اسم حركة طالبان ثلاث مرّات يُغمَى عليهم، بينما تنشرح أساريرهم، وتطرب قُلوبهم لسماع اسم نِتنياهو أو ترامب.. واللُه أعلم.