تركيا والرقص على حافة الهاوية في سوريا
سركيس أبوزيد
للمرة الأولى منذ التدخل العسكري التركي في سوريا يحصل تصادم عسكري واشتباك مباشر بين الجيشين السوري والتركي، كان حصيلته أكثر من عشرة قتلى أتراك، ولأول مرة منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015 وحادثة إسقاط طائرة روسية مقاتلة بنيران تركية، يحصل توتر مكشوف في العلاقة بين روسيا وتركيا بعد أعوام من التنسيق والتفاهمات كان من بينها وأبرزها "تفاهم سوتشي حول إدلب" و"تفاهم أستانة حول مناطق خفض التصعيد التي تشمل إدلب".
التطورات العسكرية في إدلب حركت المعارضة داخل تركيا وتحوّلت الى بند أول في الحراك السياسي الداخلي، حيث طلب حزب "الشعب الجمهوري" عقد جلسة للبرلمان لمناقشة الوضع في إدلب وفي سوريا. وفي حيثيات المذكرة التي قدمها، أورد أن الجيش التركي في إدلب أمام مخاطر كبيرة، وأمام إحتمال الدخول في حرب مع الجيش السوري، داعياً إلى مناقشة مجمل السياسة السورية للرئيس، وكيفية حماية الجنود الأتراك من المخاطر. وانطلقت على إثر ذلك نقاشات حادة حول خيارات تركيا في سوريا، عكست انتقادات لسياسة إردوغان والمستنقع الذي أوقع بلاده فيه فعلاً.
ومؤخراً وصل الى أنقرة المبعوث الأميركي الخاص الى سوريا جميس جيفري ضمن زيارة لتركيا وألمانيا لبحث التطورات في سوريا والمنطقة. واشنطن التي كررت إعلان تأييدها لتركيا على لسان العديد من مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترامب، قررت على ما يبدو الإفادة من فرصة الشقاق الذي ظهر في جدار العلاقات التركية - الروسية، لإعادة أنقرة إلى كنف سياساتها الإقليمية، خصوصا في سوريا.
من ناحيته، يقول باراك بارفي كبير الباحثين في معهد واشنطن، إن أردوغان يدرك بشكل متزايد أن اتفاقاته مع روسيا بشأن سوريا محكوم عليها بالفشل. ومع ذلك، فهو يحتاج إلى دعم روسي لضمان عدم قيام الحكومة السورية بشن ما وصفها بـ"هجمات انتقامية" عندما تستعيد سيطرتها على حدودها مع تركيا. لكنه سيستمر في التنسيق عن كثب مع بوتين لأنه حليفه الوحيد في الصراع. ويعتقد البعض أن انقلاب العلاقة الروسية - التركية يعود إلى التغييرات التي أحدثها القرار الأميركي بتصفية (الشهيد) قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" الإيراني، في رسالة إلى محور آستانة بأن إيران وروسيا وتركيا مطالبة بتغيير سياساتها في المنطقة، خصوصا تركيا التي تطالبها واشنطن بحسم خياراتها في علاقاتها مع حلف "الناتو" وموقعها فيه، حسب تعبيره.
التعاطي الروسي مع تركيا مختلف إلى حد ما عن تعاطيه مع طهران، فهناك المراهنات والمخاطر كبيرة للغاية، لكن يبقى أكثر ما يعقد الأمر عاملان:
- العامل الأول: الاختلاف في علاقات كل منهما مع دمشق، بالنسبة لروسيا، دمشق هي صديقة وشريكة، أما بالنسبة لتركيا فهي في الواقع خصم، بينما تعتبر دمشق تركيا دولة محتلة واجتاحت أراضيها بشكل غير قانوني.
- العامل الثاني: الاختلافات في مواقف الأطراف تجاه عدد من المنظمات الكردية النافذة في سوريا، وبالدرجة الأولى حزب "الاتحاد الديمقراطي و"وحدات حماية الشعب"، أنقرة تعتبر هذه المنظمات إرهابية ومصدر تهديد مباشر لأمنها القومي، بينما روسيا لا تشاركها هذا التقييم، فقد حافظت في وقت سابق على علاقات حميمة مع قادة حزب "الاتحاد الديمقراطي"، وحاولت ربطهم بعملية التفاوض في إطار التسوية السورية.
لكن الأمر في إدلب معقد، فهي آخر معارك الحرب السورية، وهي التي تحدد مستقبل سوريا السياسي وما إذا كان لتركيا دور وحصة فيها، وهي التي تحدد مستقبل سوريا الجغرافي وما إذا كان المشروع التركي لإقامة منطقة آمنة حدودية سيكتب له النجاح وسيكون من ضمن مشروع لتقسيم سوريا تشتغل عليه الولايات المتحدة التي تتصرف على أساس أن سوريا الدولة المركزية قد انتهت.
وللمرة الأولى بدأت تصدر عن تركيا تصريحات وإشارات تنتقد وتهاجم روسيا وتحمِّلها المسؤولية عن استهداف المدنيين، وتدعوها الى "كبح جماح" الرئيس الأسد ووقف هجوم الجيش السوري، وللمرة الأولى تنتهي مباحثات تركية - روسية امتدت على ثلاث جولات الى خلاف ولا تصل الى نتيجة. ومن الواضح أن أردوغان يمارس سياسة حافة الهاوية، عبر التهويل والتصعيد المدروس والهادف الى الضغط على روسيا، وسوريا أيضا، لخفض سقفهما من التصعيد العسكري الأخير والاكتفاء بما تحقق، وانسحاب الجيش السوري الى ما قبل "خطوط سوتشي".
بالمقابل، بدت موسكو عازمة على مواجهة أي اختبار تركي للقوة أو للصبر، ومنع أي محاولات لتغيير الواقع الميداني، وخاصة فيما يتعلق بالسيطرة على المناطق المؤثرة على الطرق الدولية والرئيسية حلب دمشق، وحلب اللاذقية.
أردوغان يضغط على بوتين مستخدما ورقة التهديد بالحرب وعملية عسكرية واسعة من جهة، وورقة اللجوء الى واشنطن والتلويح بالانتقال الى الضفة المقابلة من جهة ثانية، مراهنا على أن موسكو ستهرع إليه لعقد اتفاقية جديدة تحت التهديد، وهنا يقع أردوغان في خطأ مزدوج: خطأ الوقوع في الفخ الأميركي الذي يوصله الى مواجهة عسكرية مع الروس والجيش السوري، وخطأ تقدير موقف بوتين الذي لديه حساباته ومصالحه الخاصة والمتعارضة مع حسابات ومصالح تركيا في إدلب وشمال سوريا.
من الواضح أن لا مخرج عسكريا للأزمة وأن الحل سيكون في نهاية المطاف سياسيا. فما يحصل اليوم لن يتحول الى حرب مفتوحة بين الأتراك والسوريين بالنظر الى صلابة القوة التي يقيمها بوتين مع الرئيس الأسد، وحرصه أيضا على العلاقة التي بناها مع إردوغان.
في النهاية، يراهن أردوغان على دعم داخلي في مسألة تتعلق بالأمن القومي التركي، وعلى أن حلف الأطلسي لن يتركه وحيداً، وأن الولايات المتحدة ستقدم له الدعم الدبلوماسي والاستخباراتي، وعلى أن بوتين لن يغامر بخسارة ما حققه مع تركيا الدولة العضو في حلف الناتو من تطوير للعلاقات الثنائية اقتصاديا وعسكريا. بينما يراهن بوتين على أنه صاحب القدرة العسكرية النارية، وفي يده مفتاح اللعبة والحل في سوريا، وأن المجتمع الدولي لا يمانع إضعاف تركيا الطموحة صاحبة المشروع الإقليمي التوسعي في المنطقة. كما أنه ليس من مصلحته أن تقع حرب، وإنما من مصلحته الإبقاء على "العامل التركي" لموازنته مع العامل الإيراني، وستكون موسكو على هذه الخلفية أمام استحقاق إعادة النظر في توازن المصالح الذي بنته في وقت سابق بين الأطراف المختلفة، من طهران الى أنقرة الى "تل أبيب"، على أساس الواقع الجديد الذي يكون من ضمنه ترتيبات أمنية في شمال سوريا تستجيب لقلق أنقرة، وبقاء الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات رغم محدوديته، لأن الموقف الأميركي مؤشر على الدعم الدولي الذي تحتاجه موسكو في عمليتي إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار.