الإرهاب المالي الأميركي في لبنان: الحرب بلبوس اقتصادي
د.علي مطر
تحولت العقوبات الاقتصادية إلى الاستراتيجية الأكثر استخداماً في سياسة الهيمنة الأميركية. أصبحت البديل عن الحروب العسكرية، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدد مصالحها، ولفرض تغيرات جيوسياسية تصب في استراتيجية الهيمنة.
ذهبت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب إلى عملية ضخ كبرى للعقوبات كإحدى أدوات سياساتها الاقتصادية. وتعد سياستها هذه من أخطر أنواع السياسات التي تندرج في إطار السياسات الدولية، من خلال ممارسة الضغط على الدول المستهدفة بالعقوبات بهدف تغيير مواقفها في الاتجاه الذي تريده.
تتراوح الاستراتيجية الأميركية بين نموذجين يقوم الأول على الأدوات الاقتصادية البحتة، والثاني على الحرب الاقتصادية المرافقة لأعمال عسكرية الهدف منها التسبب في أكبر قدر من التدمير بالبنية التحتية والقدرات الإنتاجية للدول المستهدفة. لا يوجد أصدقاء عند إدارة ترامب، أسس العلاقات الدولية في منظوره قائمةً على مصلحته، وخياراته أحلاها مر، هي الإملاءات والصفقات ودفع المال أو ستكون أمام العقوبات، نماذج كثيرة من الدول باتت تواجه هذه العقوبات، من روسيا وكوريا الشمالية وإيران والصين وغيرها.
لبنان انموذجاً
لقد أصبح لبنان في لائحة العقوبات، حيث بات الإرهاب المالي الأميركي يعرض الأمن الاقتصادي اللبناني للخطر، وهو الشكل الأبرز من التدخل في شؤون الدولة.
هذا الإرهاب الأميركي والاستعلاء في التعاطي مع لبنان، لم يبدأ في الزيارة الأخيرة لمساعدة وزير الخزانة الأميركية، مارشال بيلنغسلي، فهذه السياسة الأميركية المتبعة مع معظم دول العالم المناهضة لأميركا، هي نتاج ضغوطات مستمرة من قبل صقور الإدارة الأميركية، ويأتي لبنان كجزء أساسي من هذه السياسة، لما بات يمثله من خطر على أمن الكيان الإسرائيلي، وكقوة رئيسية في المنطقة العربية غير خاضعة لسياسة الإملاءات الأميركية.
أمام ما يملكه لبنان من عناصر قوة، من جيش وشعب ومقاومة، أصبح من الضروري بالنسبة لواشنطن تفكيك هذه القوة، وهذا ما يستدل عليه من خلال الزيارات المكوكية لمسؤولين أميركيين رفيعي المستوى خلال بضعة أشهر. فبعد وكيل وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية دافيد هيل، في كانون الثاني، ثم وزير الخارجية مارك بومبيو، في آذار، من ثم أكثر من خمس مرات في حركة مكوكية بين بيروت وتل أبيب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بالوكالة، دافيد ساترفيلد، ما بين أيار وتموز، وصولاً إلى خلفه في منصبه بالأصالة، دافيد شنكر، في أيلول، حضر مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلنغسلي للمرة الثانية بعد كانون الثاني 2018، لتوسيع هذا الاستهداف من خلال التصعيد في الإرهاب المالي، بشكل يخرق السيادة الوطنية اللبنانية ويتدخل في شؤون الدولة بما لا يتناسب مع القانون الدولي الذي تعد الإدارة الأميركية المنتهك الأول له.
الخروقات الأميركية
مع أن لغة القانون لم تعد تنفع، في ظل تعنت الولايات المتحدة الأميركية في استخدام هذه السياسة ولكن لابد من التطرق ولو بايجاز إلى الخروقات التي تمارسها أميركا للقانون الدولي، ولميثاق الأمم المتحدة، حيث تخرق بشكل واضح ميثاق الأمم المتحدة والقرارت الصادرة عن الجمعية العامة للمنظمة وغيرها من القرارات التي تؤكد على سيادة الدولة. لم يفت ميثاق الأمم المتحدة أن يعالج موضوع التدخل من ناحية الهيمنة الدولية عندما نص في الفقرة السابعة المادة الثانية على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ "للأمم المتحدة" أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما".
وقد جاء في قرار لمجمع القانون الدولي عام /1954/ أن: "المسائل التي تعد من صميم السلطان الداخلي هي تلك الأنشطة التي تمارسها الدولة، والتي يعد فيها اختصاص الدولة غير مقيد بالقانون الدولي . ويتوقف مدى، أو نطاق هذه المسائل على القانون الدولي، ويختلف تبعاً لتطوره". وأكدت اتفاقية مونتيفيديو عام 1933 في مادتها الثامنة على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول حيث نصت على أنه " ليس لأي دولة الحق في التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة أخرى". ونشير إلى اتفاقيات هلسنكي 1975 التي أكدت في سلة موادها الأولى على مبدأ عدم التدخل.
الحديث عن الانتهاكات الأميركية للقانون الدولي، ينطلق من مسلمة أساسية، هي أن هذه العقوبات لا يحق لدولة ما أن تفرضها من خارج سياق الأمم المتحدة، سواء فرضت ضد دول أو منظمات إلا إذا كانت لا تتناقض مع ما تنص عليه مبادئ الأمم المتحدة أو قراراتها الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، وفي هذه الحالة لا يمكن لواشنطن فرض عقوباتها على أي كيان لبناني كونه لا يوجد قرار في ذلك من قبل الأمم المتحدة، فالعقوبات الاقتصادية التي تفرض من قبل الأمم المتحدة تعد نوعاً من أنواع الجزاء في القانون الدولي، وهي تقوم على وقف العلاقات الاقتصادية مع أفراد أو دول لقمع أو إصلاح سلوك عدواني، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ولقد أوردت المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة صوراً لبعض التدابير غير العسكرية. ويستمد الأساس القانوني للعقوبات الاقتصادية الدولية من ميثاق الأمم المتحدة في فصله السابع المواد (39- 41)، لكن ليس من حق أي دولة استخدامها وفرضها من خارج سياق هذه الآلية الدولية.
بناء على ما تقدم، نخلص إلى أن ما تقوم به واشنطن في تعاملها مع لبنان هو إرهاب اقتصادي يخرق السيادة الوطنية التي تعد السلطة العليا للدولة في إدارة شؤونها في الداخل وفي علاقاتها الخارجية، بمعنى أن الدولة هي وحدها صاحبة السلطة من دون شريك على كامل مساحة الوطن ووجها خارجيا يتمثَل في علاقاتها بغيرها من الدول ضمن حدود احترام استقلال كل دولة وعدم جواز التدخَل في شؤونها الداخلية، وبالتالي لا يحق لأية دولة أخرى أن تفرض عليها أو على اي حزب أو كيان داخلها عقوبات طالما لا يخالف شرعية الدولة.