فلسطين المحتلة أكبر من الضفة وغزة.. فهل تذكرون؟
د. وفيق إبراهيم
اشتراك فلسطينيي 1948 الموجودين على اراضيهم داخل فلسطين المحتلة في الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، لا يستحق التهليل والثناء لا من اهلهم في غزة والضفة الغربية، ولا من العرب المجاورين.
أولاً: يبتعد هذا الكلام عن مجرد توجيه نقد لصامدين بذلوا كامل طاقاتهم لتحرير بلدهم المحتل وسط مراوغات عربية تذهب حالياً الى حدود التحالف العلني مع الكيان المحتل.
لا شك في أن هذا الجانب يُرعب الداخل الفلسطيني ويؤسس لانهيارات، لكن المدقق بأوضاع المنطقة بدءاً من غزة المتمردة العاصية على الاحتلال ببنادق اهلها وصلابتهم، وسورية التي دمرت مخططاً اميركياً لتحويل كامل المنطقة فلسطين محتلة جديدة، وحزب الله الممتشق بندقية منتصرة هزمت «إسرائيل» في حربي 2000 و2006 ونصيرها الارهاب الدولي في الست سنوات الاخيرة، وايران التي تتجه الى تغيير معادلات القوة والاستتباع بصمود أسطوري في كامل الشرق الاوسط، واليمن المندفع كالسهم يُدمي قلب أعدائه، والعراق الذي جعل احتلال الاميركيين له مجرد إرهاق مالي على الاقتصاد الاميركي من دون تحقيق انجازات سياسية، هذه حقائق لا تنتمي الى فنون الخطابة التي تخترع انتصارات وهمية يتخصص بها السياسيون العرب.
لذلك كان من المفترض ان تنعكس هذه الإنجازات المستمرة على مستوى المزيد من تمتين الوضع الفلسطيني وهي تؤدي تدريجياً اليه، انما في غزة فقط مع بدايات غضب فلسطيني في الضفة الغربية، لكنه لم يبلغ أشده حتى الآن، ربما بسبب البراجماتية الزائدة لرئيس السلطة محمود عباس الذي يبالغ في انتسابه الى فئة محترفي فنون الخطابة الجوفاء.
ما يجب الإقرار به هو استحالة تشكل انتفاضة لفلسطينيي الـ 1948 من دون اندلاع انتفاضات مسبقة في الضفة. وبما أن هذا لم يحدث، فلم يكن متوقعاً أن تنشب في أي مكان آخر باستثناء غزة المتحررة سياسياً من وصايات الخليج الفارسي المتحالف مع «إسرائيل» وسلطة الضفة التي تجهد نفسها في زوايا الاقتراحات السياسية المتداولة للبحث حتى عن «مخترة» او بلدية صغيرة تواصل من منابرها اطلاق شعارات فارغة.
المفاجئ اذاً، ان مرحلة الصمود العربية الغزاوية الراهنة لم تدرك عرب فلسطين 1948 فتورطت قواها السياسية منذ ايام عدة فقط في الانتخابات النيابية الاسرائيلية باندماج مثير للاستغراب وغير مبرر، وبنت برنامجها السياسي على قاعدة منع رئيس وزراء الكيان نتنياهو من العودة الى الحكم باعتبار ان حزبه الليكود هو من الأحزاب الاسرائيلية اليمينية المتطرفة واعلنت تأييدها للحزب الاسرائيلي «ابيض ازرق» على ان يكون رئيسه الجنرال السابق في الجيش الاسرائيلي بني غانتس رئيساً للحكومة المقبلة.
لمناقشة هذه الانعطافة، يندفعُ الجانب الوطني الى صدارتها، فالمشاركة في انتخابات أقرتها البنى الدستورية للكيان المحتل، هي اعتراف كامل به وليست تدبراً للعناية بفلسطينيي الـ 48 من طريق اللعب على التناقضات السياسية بين القوى الاسرائيلية وانتزاع اهتمام حياتي افضل للفلسطينيين وقد تندرج مسألة إبعاد الأكثر تطرفاً من بين القوى الاسرائيلية ضمن لائحة الأهداف.
لكن مجرد الانخراط في آليات انتاج السلطات في كيان الاحتلال هو إقرار بوجوده واستمراريته وقيادته بما يقصي اي نقاش آخر.
هذا بالاضافة الى ان تشكيل قائمة عربية نجحت في الفوز بـ 14 مقعداً في «الكنيست» الاسرائيلي مجلس النواب هو انخراط كامل في اللعبة السياسية للعدو وإقحام المدنيين الفلسطينيين في الصراعات بين قواه الداخلية اليهودية.
لجهة التذرعِ بيمينية نتنياهو مقابل وسطية منافسه بني غانتس، فهذا امرٌ مرفوض لأن حزب العمال الإسرائيلي المعروف بوسطيته هو الذي هاجم سورية ومصر ولبنان ملتهماً قسماً كبيراً من فلسطين، وبالتالي فإن الفوارق السياسية بين قوى الكيان الغاصب هي لمصلحة المدنيين الاسرائيليين حصراً ولا علاقة لها بموقفهم من موضوع فلسطين المحتلة، او من اقتطاع أجزاء من دول عربية اخرى، وبمعنى اوضح فإن هناك إجماعاً اسرائيلياً على يهودية فلسطين المحتلة من البحر الى النهر وربما من النيل الى الفرات، لكنهم يتحيّنون التوازنات الدولية والتراجعات العربية لتحقيق مطامعهم بالتدريج وليس بالخطابات والعنتريات المسطحة.
قد يتصدّى النواب العرب في القائمة المشتركة الذين نجحوا في الانتخابات الاسرائيلية بالقول إن السلطة الفلسطينية تعمل على دويلة تشمل الضفة وغزة فقط مقابل الاعتراف بالكيان المحتل على أساس حل الدولتين، مضيفين بأن منظمة حماس نفسها وافقت على دويلة في الضفة وغزة إنما من دون ان تقبل بالاعتراف بالكيان ويعتبرون أن الدول العربية تعمل على تطبيق «حل الدولتين» منذ مبادرة الملك السعودي عبد الله في 2002.
وهذا يؤدي تلقائياً الى اعتبار فلسطين الـ 1948 جزءاً من الكيان الاسرائيلي، فلماذا لا يشاركون اذاً في مؤسساته السياسية لتحسين اوضاع أهاليهم؟
اسرائيل تعرف قبل غيرها، أن حل الدولتين يؤدي في مراحل لاحقة الى تدهورها وتراجعها وصولاً الى انحلالها وتفككها، لأنه يمنع إلغاء القضية الفلسطينية، فمجرد وجود دولة فلسطينية مع 20 في المئة من الفلسطينيين داخل الكيان المحتل هو أكثر من كافٍ لتفجير «إسرائيل» في تعاون فلسطيني سوري مع حزب الله وإيران والعراق واليمن، لذلك تعمل «إسرائيل» مع الأميركيين على إلغاء القضية الفلسطينية نهائياً مع التركيز على تشكيل المحور الأميركي الخليجي الإسرائيلي.
هذا ما يجعل من الانخراط السياسي لفلسطينيي الـ 1948 في «إسرائيل» عملاً مغامراتياً غير محسوب بدقة. وكان الابتعاد عنه أفضل، لكنه لا يرتقي الى مرتبة العمالة او الخيانة، بقدر ما يعكس احباطاً من السياسات الخليجية والمصرية والأردنية المتحالفة مع «إسرائيل».
بأي حال، فإن الامل معقود على تشكل انتفاضات فلسطينية في الضفة والداخل الاسرائيلي الى جانب الصمود البطولي لفترة، وبذلك يتأكد الجميع ان فلسطين لا تقتصر على غزة والضفة، بل تشمل كامل فلسطين المحتلة من البحر الى النهر، على الشاكلة التي كانت عليها في الزمن القديم لبلاد الشام العصيّة على كل الغزاة والمستعمرين، وما عليكم إلا السؤال عن الفرنجة الذين احتلوا المنطقة مئتي عام وولوا مدبرين بالقوة والعزيمة.