المارد العراقي لن يعود للقمقم
أحمد فؤاد
عدوان سافر، متهور، وواسع، هكذا بدأ الكيان الصهيوني حربًا كاملة في المنطقة، من اليمن جنوبًا، التي تبجح "نتنياهو" رئيس وزراء كيان العدو بالمشاركة فيها إلى جانب آل سعود، مرورًا بالعراق وسوريا، وأخيرًا لبنان.
خطوة صهيونية قد تبدأ حربًا شاملة في المنطقة، وبالتأكيد فإن الخسائر المحققة بعد خطاب سماحة السيد حسن نصر الله غير خافية، وما سيأتي ـ حتمًا ـ أعظم، من صاحب الوعد الصادق، والبشائر بدأت بالفرار إلى الملاجئ، ومنع الدوريات العسكرية على الحدود، لحرمان المقاومين من صيد سهل، كما تقول البيانات الصهيونية، والتي بدا معها الكيان في حالة ذعر غير مسبوقة، عبّر عنها رئيس حكومته الأسبق، إيهود باراك، بقوله إن "الهجوم الأخير هو مجرد ثرثرة ستأتي بالضرر، مقابل الحصول على دعاية انتخابية رخيصة".
لكن هل تستحق المغامرة الصهيونية كل هذا الضرر بالفعل؟ وما هو الهدف الذي يبحث عنه نتنياهو من وراء عدوان شامل كهذا، أطلقه وهو على يقين مقدمًا أنه لن يمر بدون حساب؟
الهدف الصهيوني كبير وعظيم، ولا يتعلق بتهديد محتمل، لكنه يدور حول أصابع ديناميت تلتف حول قلب الكيان، وتلتصق به أكثر فأكثر، وتتزايد، حاملة معها آمال استمراره على أرض فلسطين إلى صحارى الأوهام.
ويمكننا ببساطة، غير مخلة، أن نركز أهداف كيان العدو من هجماته الأخيرة، في نقاط قصيرة، فهو يريد قطع رباط يمتد من طهران إلى بغداد ثم دمشق وبيروت، ومحاولة توصيل رسالة أن الطريق "غير سالكة" للمضي بأمان، أو على الأقل هي تحت رحمته، يضرب متى شاء وأينما شاء.
والسبب الآخر، هو تحجيم قدرات الحشد الشعبي العراقي، ومحاولة خلق توتر في العراق حول دور الحشد في مرحلة ما بعد داعش، عن طريق أبواق كثيرة، لا تزال تعمل بهمة ونشاط شديدين في خدمة المحتل الأميركي، وحان وقت استخدامها، وهي طريقة صهيونية مفضلة، يحلو له استخدامها في المنطقة العربية، بالحديث الدائم عن جدوى المقاومة، ومحاولة صياغة رأي عام مزيف يدين أي عملية تستهدف الكيان أو الولايات المتحدة، باعتبار السلام هو الخيار المفضل لجماعة التابعين لواشنطن.
والحشد الشعبي بالتأكيد أحد أهم أهداف الكيان من العدوان الأخير، فقبل الاستهداف الحالي، لم يضرب سلاح الجو الصهيوني العراق سوى عام 1981، في العملية الشهيرة "أوبرا" يوم قصف المفاعل النووي العراقي "تموز"، أي أنه ومنذ 38 عامًا، فإن الكيان يعود لضرب هدف آخر ثمين، يعتبره أيضًا تحديًا وجوديًا له.
تجربة الحشد الشعبي بكاملها هدف صهيوني ثمين، إنها التجربة الشعبية الأولى في بلد عربي كبير، صاحب حضارة ضاربة في جذور التاريخ، ولها من العداء مع اليهودية ما لا يتسع له مقام، وهي تجربة مستولدة من أتون المستحيل، فالبلد منهك بعد حكم تخريبي شامل مستمر خرج منه إلى احتلال أميركي، أراد تفتيته، مقدمة لعزله جغرافيًا عن أمته العربية، وبلاد الرافدين كانت تقليديًا المعبر من آسيا الوسطى بكتلتها الإسلامية الضخمة، والعالم العربي، المحاصر بالمحيط غربًا والصحراء جنوبًا والبحر شمالًا.
هذه التجربة نجحت، بتفوق ساحق أمام تحدي التنظيمات الإرهابية، التي أسقطت ثلث مساحة العراق في قبضتها، بعد تقديرات جنرالات البنتاجون أن الحرب ضد "داعش" تحتاج لعشر سنوات على الأقل، فإذا بأبطال الحشد ينجزون مهمتهم في أشهر، بدعم غير محدود من محور المقاومة، والجمهورية الإسلامية على رأسه.
الحشد كتب، بمداد الدم الزكي، مستقبل الفعل الشعبي الحقيقي، ضد الهيمنة، وضد الاحتلال الجاثم على قلب كل قطر عربي، وهنا مكمن الخطر على الكيان. كما أن التفاعل الخلاق بين التجربتين اللبنانية والعراقية، والارتباط الجغرافي الذي وفره الظرف التاريخي في العراق كانا من أسباب قلق العدو، والحشد الشعبي العراقي تحول إلى هاجس يقض مضاجع القادة الصهاينة، بعد أن أنجز مهمة تحرير العراق من "داعش"، وبات قوة فعل هائلة، دالة على قدرة أبعد من حدود العراق.
العراق بوزنه السكاني والحضاري، وبثرواته الهائلة، نفطية وزراعية، والتجربة المذهلة للحشد الشعبي، ودور إيران فيها، والدماء التي بذلتها، هي الهدف الصهيوني الأهم، ومن ثم، تتحول الكتابة عن العراق إلى واجب وفرض، لوضع الأمور في نصابها، وتفويت فرصة المتاجرة على خونة الأمة أدعياء السلام، والذين يهمهم ـ الآن وليس مستقبلًا ـ هدم التجربة الشعبية الأهم في عالمنا العربي، بكل دلالتها وألقها، وقدرتها على رسم طريق الخروج من الأسر، لغيرها من الشعوب العربية.