’الديمقراطية الايرانية’ و’الديماغوجية الغربية’
علي عوباني
يجهل كثيرون ايران، يتحدثون عن جهل وغير دراية بما لا يعلمون، يرفعون عناوين كثيرة ويتحدثون عن تركيبة نظام الجمهورية الاسلامية، وعن ولاية الفقيه، والديمقراطية في ايران. لكن بعيدًا عن هذا الصخب السياسي والاعلامي، فإن الباحث عن الحقيقة لا يجد عناء في استخلاص وتوصيف الواقع انطلاقًا من الوقائع الموجودة على الارض، وليس انطلاقًا من الهوى السياسي لهذا أو ذاك، واسترضاءً لمصلحة هذه الدولة أو تلك.
لو عدنا بالتاريخ الى مرحلة تأسيس نظام الجمهورية الاسلامية في ايران، لوجدنا ان اشكال واساليب الممارسة الديمقراطية كانت حاضرة بقوة منذ البدء في ادبيات الثورة الاسلامية وممارساتها، والدليل أن اللبنة الاولى للنظام الاسلامي في ايران عقب الثورة ارتكزت على الاستفتاء الشعبي الذي أجراه الامام الخمنيي (قده) في آذار 1979 على مشروع الدستور الايراني. فعلى الرغم من ان الشعب الايراني كان يسير آنذاك رهن اشارته، وانه كان بإمكانه تكريس النظام الذي يريد، لكن الامام الذي انطلق من الشعب أبى ذلك وعاد للشعب مجددًا، لتأسيس الجمهورية الاسلامية الايرانية ووضع دستورها بموافقة أكثر من 98 بالمئة من خلال الاستفتاء، الذي يعد أحد ابرز اشكال الممارسة الديمقراطية المعتمدة لدى الدول الغربية، لتعود وتتجلى الديمقراطية لاحقا في عدة عمليات انتخابية، وفي الاستفتاء على تعديل الدستور بعد 10 سنوات من وضعه (1989) والذي جرى بموافقة أكثر من 97 بالمئة، ومنذ انطلاق الثورة الاسلامية الايرانية حتى اليوم، شهدت ايران قرابة 37 عملية انتخابية خلال 37 سنة، بمعدل عملية انتخابية كل سنة، من بينها 11 انتخابات رئاسية، و9 انتخابات لمجلس الشورى الاسلامي (البرلمان) و4 دورات انتخابية لمجلس خبراء القيادة، الذي يختار بدوره القائد، و4 انتخابات للمجالس البلدية، وبعد عدة أسابيع تجري انتخابات نيابية وانتخابات لمجلس خبراء.
اجراء انتخابات بمعدل انتخاب كل سنة على مدى 37 عاما، وعلى الرغم من الحرب العراقية المفروضة على ايران، وفي ظل الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية، تبرز ميزة هامة لدى النظام الاسلامي في ايران، لا يمكن لاحد اغفالها، وهي ايمان القيادة والشعب الايراني بأهمية تداول السلطة، لا سيما وان البلد لا تحكمه رؤية حزبية واحدة ولا ثنائية انما هناك تعددية حزبية في ايران، تتوزع على عشرات الاحزاب التي تصنّف ما بين خانتي المحافظين والاصلاحيين، الذين يتناوبون باستمرار على حكم البلاد، وفق مشاريع ورؤى سياسية متنافسة لخدمة الشعب الايراني. وهو ما يعد من ارقى اساليب الممارسة الديمقراطية وتداول السلطة في العالم.
تتجلى اوجه الديمقراطية الايرانية، اولا بأن الشعب مصدر لجميع السلطات في ايران، بما يتآلف مع تنظيرات الديمقراطية نفسها، والشاهد على ذلك أن كل مؤسسات الحكم في ايران تنتخب مباشرة من الشعب، وبذلك يكون الشعب هو مصدر سلطة رئيس الجمهورية في ايران، ينتخب مباشرة من قبله، ليقوم لاحقا بتعيين الحكومة بناء على الثقة التي منحه اياها الشعب، ويعرض تشكيلته على مجلس الشورى (السلطة التشريعية) المنتخب بدوره من الشعب والذي بامكانه ان يعترض على تعيين اي وزير، ويحجب الثقة عنه او عن الحكومة بأكملها، وبذلك يكون الشعب هو مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكذلك مصدر سلطة مجلس الخبراء ، وينتخب الأخير مباشرة من الشعب ليختار بدوره القائد بناء على مواصفات محددة في الدستور، وبذلك يكون القائد منتخبًا من الشعب وفقًا للانتخاب غير المباشر والذي تطبقه معظم دول العالم. ويعين من جهته مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يقتصر دوره على حسم النزاعات بين مجلس الشورى وبين مجلس صيانة الدستور، وتقديم المشورة الى القائد فيما يحيله إليه من مسائل، وخاصة في تحديد سياسات الدولة العامة ورسم استراتيجيتها على مدى طويل. دون أن ننسى بالطبع مجلس صيانة الدستور، الذي يتكون من ستة من كبار رجال الدين، وستة من رجال القانون، ويعتبر بمثابة مجلس دستوري، اوجدته معظم دساتير الدول الغربية، ومهمته الاساسية تفسير الدستور الايراني ومطابقة مدى انطباق القوانين التي يصدرها مجلس الشورى الاسلامي مع الدستور الايراني. وكذلك دون ان ننسى ايضا ان الشعب الايراني هو مصدر السلطات المحلية البلدية، ويتم اللجوء اليه بالاستفتاء لإجراء التعديلات الدستورية. كما منحه الدستور حق التشريع بصورة مباشرة عبر الاستفتاء العام (المادة 59).
ممارسة اللعبة الديمقراطية في ايران، والتي يعتبر الشعب الايراني مصدرها، تبرز جليًا كذلك في نسب مشاركة هذا الشعب في جميع الانتخابات والاستفتاءات التي جرت وتجاوزت المشاركة بمعظمها سقف الثلثين (77 % عام 2013) ووصلت الى حدود الـ85 بالمئة في بعضها (2009)، وهذه ميزة أخرى، باعتبار أن نسب المشاركة هذه لا نظير لها في أعتى الديمقراطيات في العالم. فحتى في الدول الاوروبية، وفي اميركا التي تتباهى بأنها موئل الديقراطية ومنبعها لا تصل نسبة المشاركة الشعبية في أي انتخابات مهما بلغ حجم التنافس فيها الى حدود الـ50 بالمئة. هذا فضلا عن ان نسب المشاركة الايرانية هذه تعتبر بحد ذاتها بمثابة استفتاء على النظام الاسلامي في ايران، يدلل بشكل واضح على عمق الايمان الشعبي بالنظام الاسلامي في بلاده وثقته بتركيبته وآلياته الديمقراطية، وايمانه بقدرته وفعالية صوته التمثيلية لايصال القادة والرؤساء والنواب والمجالس المحلية.
الترشح للانتخابات
أبعد من ذلك، تتماثل الاصول الديمقراطية المتبعة في جميع دول العالم، مع الاصول المتبعة في ايران، لجهة شروط الترشح والترشيح لاي انتخابات، فما يحصل في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الاميركية والفرنسية..، لناحية حصر الترشيحات بالمؤهلين لخوضها، وفقا لشروط محددة سلفا، ينطبق ايضًا على الانتخابات في ايران، وعادة ما يكون هنالك جهة او سلطة قضائية او دستورية مخولة النظر في مدى توافق اهلية المرشح مع النصوص الدستورية والقانونية، وهذه السلطة من اختصاص المجالس الدستورية في اميركا وفرنسا، وكذلك هي في ايران مخوّلة لمجلس صيانة الدستور، الذي يقوم بفرز المرشحين، وحتى يتأهل المرشح للرئاسة ويحصل على موافقة المجلس يجب أن يكون إيراني الأصل، ويحمل الجنسية الإيرانية، وأن يكون شخصية سياسية أو دينية بارزة، وأن يكون له سجل لا تشوبه شائبة من الورع والإخلاص للجمهورية الإسلامية الايرانية. وهذه شروط موجودة بطبيعة الحال في جميع دساتير العالم.
وبحكم ايمان النظام الانتخابي الايراني بجوهر الديمقراطية، في ايران، وايمان القيادة الايرانية المطلق بالشباب، كان من البديهي ان يتم منح جميع الشباب الإيراني ممن تجاوزوا سن الثامنة عشرة من العمر ليس فقط حق الإدلاء بأصواتهم والترشيح بل حق الترشح ايضا. كما ان مدة الرئاسة المحددة بفترة زمنية محددة بأربع سنوات فقط، وطريقة اجرائها على مرحلتين بحال لم ينل اي مرشح ما يفوق الـ50% من الاصوات لينحصر التنافس بين المرشحين اللذين نالا اعلى اصوات في الجولة الاولى، وهو ما يتشابه مع اشكال الانظمة الانتخابية المتبعة في اميركا وبريطانيا وفرنسا، ويعبر عن مدى حرص النظام على تداول السلطة والرجوع للشعب لاخذ موافقته عند اي استحقاق.
لا شك أن قراءة التجربة الإيرانية لجهة النصوص الدستورية، والتجارب الإيرانية في مجال حقوق الانسان والحريات وتداول السلطة بطرق ديمقراطية في ظل وجود سلطة عليا هي سلطة الولي الفقيه، تدلل على ان هذا الدستور الإيراني دستور عصري وراقي، يضاهي ويتفوق في مواده وطريقة اصداره والتصديق عليه وتطبيق نصوصه، الكثير من الدساتير الديمقراطية في العالم، ولا ندعي هنا انه يجعل من النظام الاسلامي في ايران "جمهورية فاضلة"، لكنه يجعلها بلا ادنى شك "الديمقراطية" الافضل على وجه الكرة الارضية قاطبة، جوهرها نظام اسلامي، لا شرقي ولا غربي، متمايز عن كل ما يروج له من ديماغوجية غربية تدعي نشر ديمقراطية زائفة ومشوهة للتتلاعب بمصائر الشعوب.