kayhan.ir

رمز الخبر: 5504
تأريخ النشر : 2014August19 - 21:35

غزة.. ودروس الهدن المتدحرجة ومحاذيرها!

عبداللطيف مهنا

متوالية الهدن المتدحرجة، أو اتفاقيات وقف إطلاق النار المؤقتة وتمديدها في جاري الحرب الصهيونية على غزة واصلت تدحرجها لترسو على ثالثتها حتى الآن. كل ما هو المختلف في آخرها عن سابقتيها أن ساعاتها ازدادت عن الاثنتين والسبعين لتصل إلى المئة والعشرين. محاولة إبداء قليل مما عزَّ من التفاؤل التي شابت إعلان رئيس الوفد الفلسطيني الموحَّد قبوله بهذه التهدئة بعد دقائق من انتهاء سابقتها، بددته في الحال التحفظات التي لم يستطع ممثلو المقاومة في الوفد إحكام كتمانهم لها، لتأتي التسريبات لاحقًا فتكشف عن أن مفاوضات العشرة أيام لم تسفر فعلًا عن أي اتفاق حول أي من المطالب الفلسطينية، التي توافق الفلسطينيون سلطةً ومقاومةً عليها وتوحَّد وفدهم على أساسها فحملها معه إلى الوسيط المصري… لم يتم إلا على تمديد الهدنة التي سارعت غارات طائرات الصهاينة لخرقها فور إعلانها مباشرةً، وكان من اللافت أنها قد قوبلت منهم بداية بالصمت المطبق والتعتيم الإعلامي التام… فماذا بعد؟

كل الاحتمالات تظل واردةً والميدان وحده يظل هو سيد الموقف، لكن المرجَّح حتى الآن هو التزام الطرفين، وكل لأسبابه، بمثل هذه الهدنة التي تدحرجت والتي قد يتم دحرجتها مجددًا، ومن ثم قد تتوالى أيضاَ ذات العودة إلى ذات المربع الأول في حومة سلسلة هذه المعمعة من التفاوض غير المباشر والجارية عبر ذات الوسيط. الصهاينة، لأنهم يريدونها أن تتحول إلى دائمة أولًا، ثم لأنها تتيح لهم أن يراوغوا ويماطلوا للالتفاف على مطالب الحد الأدنى الفلسطينية، وتوخيًا منهم لأن يأخذوا عبر أحابيل التفاوض ما عجزوا عن أخذه في ساحة الحرب. والفلسطينيون، لأنهم قد اُستفرد بهم حيث عزَّ الظهير وافتُقد النصير وانهالت عليهم، إلى جانب ما آلت إليه حال ناسهم في غزة، شتى صنوف الضغوطات ومن كل حدب وصوب، ولعل أثقلها ما كانت تأتيهم من الوسيط… جوهر ما هو المتضح، حتى الآن، هو أن الصهاينة ليسوا في وارد الموافقة على رفع الحصار الإبادي المضروب على غزة، وإنما المساومة باتجاه إدارته وتنظيمه لا أكثر

ما سُرِّب حول ورقتهم، التي سلمها الوسيط المصري للوفد الفلسطيني فرفضها، تجاهلت بادئ ذي بدء ذكر الرئة الوحيدة والمسدودة، التي من المفترض أن يتنفس منها القطاع المحاصر، وهي معبر رفح. أما باقي المعابر، التي هم يتحكمون بها، فرهنت فتحها باتفاق تفصيلي مع السلطة لا غير ودونما جدول زمني واضح. واعتبرت إعادة فتح مطار غزة والميناء البحري مسألتين ليستا بذات أولوية. إلى جانب رفضها لإلغاء المناطق العازلة شمال وشرق القطاع، رابطةً إياه وتدرُّجًا باتفاق شامل لوقف إطلاق النار. وكل ما جادت به على الفلسطينيين هو السماح بإيصال رواتب الموظفين عبر طرف ثالث، وتمديد مساحة الصيد المسموحة أميالًا إضافية، وأكملتها باستعداد مدمري غزة للمشاركة في عملية إعادة إعمارها، أي العودة إليها هذه المرة عبر بوابة هذا الإعمار!!!

ما تقدم، وفي كل الأحوال، وفي مواجهة كافة الاحتمالات، يجعل من تمسُّك الوفد الفلسطيني الموحد بمطالب الشعب الفلسطيني في حدودها الأدنى، والتي توحَّد عليها وحملها معه إلى القاهرة، مسألة مصيرية، أي لا يجوز التفريط بواحد منها، وعلى رأسها رفع الحصار كليًّا، بمعنى آخر، الحفاظ على وحدته بالحفاظ على ما توحَّد عليه، الأمر الذي يعني وجوب الارتفاع إلى مستوى التضحيات والبطولات المذهلة في أسطوريتها التي بُذلت في ملحمة غزة النضالية غير المسبوقة. لعل هذه واحدة من دروس هذه العشرة أيام من هذه المفاوضات الصعبة والمتعسرة، لكنها المختلفة عن سابقاتها سيئات الصيت، إذ إن هناك بونا شاسعا وبما لا يقاس بين أن تفاوض عدوك وأنت تقاومه محاولًا فرض شروطك عليه وانتزاع مطالبك منه باسطورية صمودك وفدائية تصديك له في مواجهتك له، وبين أن تفاوضه أعزلً من إرادتك المقاومة، بمعنى استسلامك موضوعيًّا، مموها ومفلسفًا ذلك، بانتهاجك مسارا تسوويًّا رافعا فيه شعار السلام خيارًا استراتيجيًّا أوحد، لتلج بالضرورة سرداب المفاوضات من أجل المفاوضات، والذي ثبت أنه ما قاد ولن يقود إلا إلى هاوية تصفية القضية.

لقد أثبتت الملحمة النضالية الفلسطينية في راهن محطتها الغزِّية ما لطالما كنا قد رددناه، وهو أنه لا ما يتوحد الشعب الفلسطيني حوله، وليس ما يحرك كوامن وجدان هذه الأمة التي لا تتوحد إلا على فلسطينها، إلا المقاومة. من هنا حق القول أيضًا إن ما بدا من توحُّد فلسطيني خلف مطالب الحد الأدنى في مفاوضات القاهرة ما هو إلا بفضل من هذه المحطة النضالية الإعجازية. والتي إذ أتاحت لحماس كحركة مقاومة الخروج من الملعب الأوسلوي والنأي بالنفس عن موبقات السلطة أو التخفف من أوزارها، تتيح لفلسطينيي التسوية الانفلات والنجاة من عبثية المطب الأوسلوي القاتل، وتسهِّل عليهم، وإن متأخرًا، العودة إلى خيار الشعب الفلسطيني الأوحد والمتمثل فيما يعنيه له هذا الصمود وهذه المقاومة من زوَّادة نضالية على درب التحرير والعودة.

وإذا كان لهذه الهدن المتدحرجة من دروس فلها أيضًا محذوراتها، ومنها انتهاز المتغيِّر الذي سطرته التضحيات الفلسطينية الهائلة لتوظيفه تصفويًّا في ذات البازار الذي وظِّفت فيه الانتفاضة الأولى المجيدة، والذي أودى بالنضال الوطني الفلسطيني إلى المستنقع الأوسلوي وأوصل القضية إلى ما أوصلها إليه قبيل منعطف هذه المواجهة الأخيرة ومنجزاتها. ويجيز لنا مثل هذه المخاوف ارتهان الواقع الفلسطيني رغم هذا المتحول إلى تجاذبات الواقع الرسمي العربي الرديء المحيط به، في ظل غيبوبة شعبية عربية، بينما باتت شعوب الكون، والغربية تحديدًا، الأكثر تعاطفًا مع القضية العربية في فلسطين، مع استدراكنا بأن أنظمة هذا الغرب ربما غدت الأكثر عدائية لها.