kayhan.ir

رمز الخبر: 215554
تأريخ النشر : 2025November04 - 21:43

من غزة إلى أفريقيا: الولايات المتحدة والإسلاموفوبيا والصراع الاستراتيجي مع الصين

 

محمد الحمد

لفت انتباهي تصريح خطير نشره ترامب عبر تغريدة على حسابه، تضمّن تهديدات مباشرة حول ما وصفه بـ “قتل المسيحيين في نيجيريا”، متوعّداً بحرب وحشية ضدّ ما سماهم “الإسلاميين”.

وتبع ذلك تصريح لوزير الحرب الأميركي قال فيه: “يجب أن يتوقف قتل المسيحيين الأبرياء في نيجيريا وفي أيّ مكان فوراً، وزارة الحرب تستعدّ للتحرك، إما أن تحمي الحكومة النيجيرية المسيحيين، أو سنقضي على الإرهابيين الإسلاميين الذين يرتكبون هذه الفظائع”.

هذه التصريحات ليست عابرة، بل تحمل أبعاداً سياسية وإعلامية عميقة، وتؤكد أنّ واشنطن تسعى لإعادة ترتيب المشهد الإدراكي العالمي بعد أن خسرته هي وكيانها الصهيوني بسبب جرائم غزة.

من الواضح أنّ الإدارة الأميركية تعمل اليوم على إعادة الرواية التي انهارت أمام أعين العالم، فقد كشفت مشاهد المجازر في غزة زيف الادّعاءات الغربية حول “الحرية وحقوق الإنسان”، ملايين الناس في كلّ القارات أدركوا حجم الوحشية الصهيونية، والدور الأميركي المباشر في تمويلها وتغطيتها، لذلك تحاول أميركا اليوم من خلال استغلال أحداث في نيجيريا أو السودان، أن تعيد تشكيل الصورة الذهنية لدى المجتمعات الغربية لتبدو وكأنّ المسلمين هم الخطر، لا الكيان الصهيوني.

من الجدير بالذكر أنّ نيجيريا شهدت خلال السنوات القليلة الماضية أعمالاً وحشية من السلطة الحاكمة ضدّ الشيعة، بما في ذلك مجازر كبيرة طالت الشيخ الزكزاگي وعائلته وأتباعه، وقد حصل ذلك بدعم سعودي واضح في حينه، مع صمت بل ومباركة أميركية وصهيونية وقتها، وما يحدث مؤخراً من أفعال عنف فردية بحق العوائل المسيحية من قبل عناصر إرهابية، هو في الأساس مدعوم من قبل أميركا وأدواتها، ضمن محاولتها المستمرة لإعادة صياغة الرواية العالمية لصالح مصالحها.

ولا يغيب عن السياق أنّ هذه الأحداث مرتبطة أيضاً بالصراع الاستراتيجي بين أميركا والصين، فالصين تكتسح أفريقيا بمشاريعها واستثماراتها التجارية والاقتصادية والمالية، وأميركا تعمل جاهدة لملاحقتها والتصدي لمصالحها الاستراتيجية في القارة. ومن المتوقع أن تشهد الساحة تدخلات عسكرية وأمنية أميركية في أفريقيا وأميركا الجنوبية، حيث تعتبر واشنطن أنّ أداتها الرئيسية لمواجهة الصين هي تفوقها العسكري، لأنها عاجزة عن منافستها اقتصاديا وتجاريًا في هذه المناطق.

وليس غريباً أن تخرج بين الحين والآخر شخصيات أميركية رسمية، مثل وزير الخارجية أو السفير الأميركي لدى الكيان الصهيوني، لتدعو المسيحيين صراحة إلى الوقوف مع “إسرائيل”، بحجة أنّ ما تتعرّض له “إسرائيل” هو صراع ديني ضدّ التطرف الإسلامي، هذه التصريحات، وما يجري من عمليات مريبة في أفريقيا، ليست إلا جزءاً من مشروع استخباري متكامل تديره المخابرات الأميركية والموساد، كما فعلوا سابقاً وما زالوا مع “النصرة” و “داعش”، اللتين أثبت التاريخ أنهما كانتا أداةً لتشويه الإسلام، وقتل المسلمين والمسيحيين معاً، تحت رعاية أميركية صهيونية واضحة.

إنّ ما يجري اليوم في نيجيريا ليس سوى نسخة جديدة من حرب الوعي التي تشنّها واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، فمنذ ذلك الوقت، تبنّت أميركا استراتيجية تقوم على صناعة “عدو بديل” بعد انهيار الشيوعية، وكان الإسلام هو الهدف الرئيس.

وقد كشف عن ذلك مايكل فلين، مستشار الأمن القومي الأميركي في ولاية ترامب الأولى، حين صرّح في إحدى محاضراته بمعهد واشنطن للدراسات أنّ الولايات المتحدة، بعد انتهاء الحقبة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، انتقلت إلى مهمة جديدة، وصفها بأنها استئصال الغدة السرطانية الأكبر في العالم “الإسلام”، واشتدّت هذه الحملة بعد تأسيس القاعدة وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول، ثم بلغت ذروتها مع تنظيم داعش، الذي أريدَ له أن يكون “الوجه الدموي للإسلام” في أعين الغرب، وهكذا تعاد اليوم عملية إنتاج “الإسلاموفوبيا”، لكن بثوب جديد، وبميدان جديد اسمه أفريقيا.

إنّ ما يثير السخرية والاشمئزاز في آن واحد هو أنّ أميركا التي تتباكى على المسيحيين في نيجيريا، هي نفسها التي أشرفت وخططت وسلحت الكيان الصهيوني لقتل وجرح أكثر من ربع مليون إنسان في غزة، جلّهم من النساء والأطفال، وهي ذاتها التي تدعم بالمال والسلاح والغطاء السياسي الجرائم المروعة في السودان، عبر الإمارات وأدوات إقليمية مكشوفة تعمل لخدمة المشروع الأميركي الإسرائيلي في المنطقة.

كل هذه التحركات ليست دفاعاً عن إنسان أو دين، بل محاولة لإعادة بناء الرواية لمصلحة أميركا والكيان الصهيوني، بعدما تآكلت صورتهما في الوعي العالمي.

العالم اليوم في صحوة كبيرة، لم تعد الشعوب تصدّق رواية “الحرب على الإرهاب”، ولم تعد تنخدع بخطاب “حقوق الإنسان” الأميركي الذي يغطي القتل في غزة ولبنان وعموم المنطقة.

الولايات المتحدة اليوم تحاول جاهدة أن تصنع أعداء جدداً، لتعيد إقناع المجتمعات الغربية بأنّ الخطر هو “الإسلام”، وليس “الصهيونية”، ومن خلال افتعال أحداث في نيجيريا والسودان، تسعى لإعادة تصوير المشهد بأنّ ما يجري في المنطقة من مجازر مبرّر، لأنّ تلك المجتمعات “أكثر تخلّفًا ودموية” مما حدث في غزة.

هذه هي الدعاية المسمومة التي يريد ترامب ومن خلفه الدولة العميقة الأميركية إعادة ضخها في وعي الغرب.

إنّ أخطر ما في هذا المشهد هو الصمت العربي والإسلامي أمام هذا النفاق الأميركي الفاضح، فإذا كانت واشنطن تقدّم نفسها اليوم مدافعاً عن المسيحيين في نيجيريا، فكيف صمت العالم العربي والإسلامي أمام المذابح اليومية في غزة والسودان ولبنان وسورية؟ كيف سمحنا لأنفسنا أن نكون شهوداً على جرائم القرن، دون أن يكون لنا موقف واحد موحّد أو صوت أخلاقي قوي يفضح الكذب الأميركي الصهيوني؟

لقد آن الأوان لأن نقرأ هذه الأحداث بعين الوعي لا بعين الإعلام، فكلّ ما يجري من نيجيريا إلى السودان مروراً بغزة ولبنان وسورية وباقي دول المنطقة، ليس سوى جزء من خطة واحدة تهدف إلى إعادة ضبط وعي العالم، ليعود إلى ما قبل طوفان الأقصى، حين كانت الرواية الأميركية الصهيونية هي السائدة، لكن هذا لن يتحقق لهم، لأنّ الشعوب اليوم ترى الحقيقة بوضوح، وتدرك أنّ من يقتل الأطفال في غزة لا يمكن أن يكون “مدافعاً عن المسيحيين في نيجيريا”…