kayhan.ir

رمز الخبر: 145448
تأريخ النشر : 2022January26 - 20:36

مباحثات تاريخية في الكرملين.. ومفاوضات صعبة في فيينا

جورج حداد

طوال 43 سنة منذ انتصار الثورة الايرانية، أثبتت القيادة الإيرانية ليس فقط الصدق والثبات والشجاعة، بل والحكمة والنضج الفكري والسياسي الذي يستوعب متغيرات العصر والحقائق والضرورات التاريخية، ويتكيّف معها ويساهم في تكييفها لما يخدم الأهداف الاستراتيجية الانسانية النبيلة للثورة، جنبًا إلى جنب مع جميع الدول والشعوب المناضلة لأجل التحرر والتقدم، ضد هيمنة الامبريالية الأميركية والغربية واليهودية العالمية.

ضمن هذا السياق تأتي الزيارة فائقة الأهمية للرئيس الايراني السيد ابراهيم رئيسي الى موسكو، التي تؤسس لمرحلة تاريخية جديدة في العلاقات الروسية - الايرانية، وفي التاريخ العالمي. هي مرحلة الانتقال نحو تشكيل التحالف العضوي الوثيق للمحور الشرقي الجديد المتمثل في روسيا والصين وايران، الذي يتوقف عليه مصير العالم بعد اليوم.

وقد استُقبل الرئيس الايراني ومرافقوه ببالغ الحفاوة والصداقة الحقيقية من قبل الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الروسي سيرغيي لافروف ووزير الدفاع الفذ جنرال الجيش سيرغيي شويغو وغيرهم من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين ورجال الثقافة ورجال الدين الروس.

ومنذ اليوم الأول للزيارة، فتح صالون الشرف في الكرملين للرئيس الايراني المسلم كي يؤدي فيه الصلاة، على مرأى العالم أجمع، وهو حدث يجري لأول مرة في تاريخ الكرملين، بكل ما لهذا الحدث من رمزية تاريخية تعبر، من جهة، عن نظرة روسية جديدة الى العالم الاسلامي، من خلال الوجه المشرق للاسلام الثوري الذي تقدمه الجمهورية الاسلامية الايرانية المناهضة للفكر الاسلاموي الرجعي، الظلامي الداعشي، التكفيري، الارهابي، المرتبط عضويا بالامبريالية الاميركية واليهودية العالمية؛ وتعبر، من جهة ثانية، عن نظرة اسلامية - ايرانية جديدة الى المسيحية الشرقية عامة، والروسية خاصة، التي تمثل الوجه المشرق للمسيحية العالمية التي شوهتها وزيفتها لمئات السنين النزعة الاستعمارية الصليبية ونزعة الهيمنة الامبريالية الاوروبية الغربية والاميركية.

وقد علق المفتي الحالي للاتحاد الفدرالي الروسي طلعت تاج الدين على هذا الحدث، بأن الكرملين قد تبارك بصلاة الرئيس الايراني فيه.

وطرح الرئيس الايراني امام القيادة الروسية مشروع اتفاقية اطارية استراتيجية ايرانية - روسية للـ 20 - 25 سنة القادمة، للتعاون بين البلدين الصديقين الكبيرين، في جميع الحقول السياسية والثقافية والعلمية والمالية والاقتصادية والعسكرية والامنية العالمية والتجارب الصاروخية والنووية والفضائية، وهو ما سيجسده لاحقا الخبراء والمختصون باتفاقيات محددة تتناول جميع هذه الحقول.

وفيما كان الرئيس الايراني يجري مباحثاته التاريخية مع القيادة الروسية، كانت تتواصل المباحثات الصعبة في فيينا حول البرنامج النووي الايراني، بشقيها: المباشر بين ايران والدول الاوروبية الغربية بمشاركة روسيا، وغير المباشر بين ايران واميركا بوساطة روسيا.

وفي هذه المباحثات تتذرع الدول الغربية بالخوف المزعوم على السلم العالمي من احتمال امتلاك ايران للسلاح النووي. وفي بداية المباحثات حاولت الدول الغربية أن تطرح للبحث مسائل أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية والدفاعية الايرانية. ولكن ايران قطعت الطريق بحزم على هذه المحاولات العقيمة، وأجبرت الدول الغربية على حصر النقاش بموضوع الرفع التام للعقوبات على ايران مقابل قبول عودة أميركا إلى الاتفاق النووي لسنة 2015 وعودة ايران للالتزام ببنود هذا الاتفاق كالسماح لمنظمة الطاقة النووية الدولية بالتفتيش ومراقبة البرنامج النووي السلمي لايران، والتزم ايران بالتخصيب المخفض لليورانيوم حتى 20%، لتطمين الدول الغربية الى عدم انتاج ايران للقنبلة النووية.

ان خروج اميركا من الاتفاق النووي الايراني، وفرض العقوبات الاقتصادية الشديدة على ايران، أديا الى نتائج عكسية تمامًا، حيث عمدت ايران الى تقليص وحتى منع التفتيش الدولي على منشآتها النووية، والى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم الى 60% والتهديد برفع النسبة الى 90% في أسابيع قليلة. وألقت القيادة الايرانية خلف ظهرها كل التهديدات العسكرية الاميركية والاسرائيلية بهذا الخصوص. كما استطاعت ايران اسقاط مفاعيل العقوبات الاقتصادية ضدها، بفضل صلابة وصمود جماهير الشعب الايراني البطل، والتعاون مع روسيا والصين والدول الصديقة الاخرى.

وفي مناخ التفاهم والثقة المتبادلة، التي عبرت عنها الزيارة الأخيرة للرئيس الايراني الى موسكو، وبحكم المناورات العسكرية المشتركة، المتكررة والمتوسعة، الايرانية ــ الروسية ــ الصينية، فإن ايران أصبحت تدخل موضوعيًا ضمن المظلة النووية الروسية والصينية، في حال وجود أي تهديد نووي لايران من قبل أميركا أو "اسرائيل" أو "الناتو". وايران وروسيا هما دولتان مستقلتان كبيرتان جغرافيًّا، ولم يعد هناك ما يمنع ان تعطي كل منهما الاخرى حق استخدام القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية فيها، ولا ما يمنع قيام ايران بـ"تأجير" قاعدة عسكرية نووية وغيرها لروسيا على أراضيها، ولا قيام روسيا بـ"تأجير" احدى "المدن العلمية ــ العسكرية" الروسية السرية لايران، حيث تقوم ايران بتخصيب وتجميع اليورانيوم واجراء الاختبارات العلمية النووية كما تشاء، بعيدًا عن أي رقابة دولية.

في مثل هذه الأوضاع، تدخل ايران الآن المفاوضات في فيينا بشكل مرتاح، والأمر بالنسبة لها أصبح سيان: سواء وافقت أميركا والدول الاوروبية الغربية على العودة للاتفاق النووي لعام 2015 والالتزام به أم لا، وسواء وافقت على رفع العقوبات الاقتصادية أم لا، وسواء وافقت على تحسين العلاقات الاميركية والغربية مع ايران أم لا. ففي كل الحالات ستكون ايران وحلفاؤها هم الرابحين. وصار من مصلحة أميركا وأوروبا الغربية "استرضاء" ايران وتحسين العلاقات معها، أكثر بكثير من مصلحة ايران في "استرضاء" أميركا وحلفائها.

فاميركا مع كل حلفائها، لم تعد قادرة على تحدي الدول القوية كايران وروسيا والصين ولا حركات المقاومة ضد الامبريالية واليهودية العالمية، ولم تعد جديرة بأن تقدم للدول والشعوب الصغيرة والمظلومة، كافغانستان واليمن ولبنان وجماهير الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة وفي الشتات، سوى الارهاب الداعشي والتدمير وقتل الاطفال والمدنيين والنهب والإفقار والتجويع.

ولكن أمام الوعي المتنامي للشعوب، وتصليب عود محور المقاومة العربية والاسلامية، وبفضل صدق وشجاعة وحكمة القيادة الثورية الايرانية، ودعم روسيا والصين، فإن أميركا أصبحت اليوم تقف عاجزة عن مواصلة تطبيق سياسة العدوان والهيمنة والتوسع، وقد انسحبت مؤخرًا من أفغانستان بشكل ذليل، ولم يبق أمامها سوى أن تحمل "كلاكيشها" وترحل من كل آسيا الغربية وشمال افريقيا، وتأخذ معها جميع عملائها العرب القدماء والجدد، من شيوخ النفط والدواعش و"الليبراليين الجدد" وخفافيش "الربيع العربي" المزيف، الى جانب الانفصاليين الأكراد الطاعنين في الظهر، واليهود الصهاينة الذين لا زالوا يحتلون فلسطين العربية والجولان السوري وينبغي أن يدفعوا غاليًا ثمن جرائمهم وخيانتهم التاريخية لشعوب الشرق.

إن الترجمة العملية، فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، للنظرة الروسية الجديدة الى العالم الاسلامي من خلال الاسلام الثوري الايراني، والنظرة الاسلامية الايرانية الجديدة الى المسيحية العالمية من خلال المسيحية الشرقية ــ الروسية، تمثل نقلة نوعية انقلابية في الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا العالميتين، نقلة تؤسس لتغيير النظام العالمي القائم وتغيير وجه العالم ليس في العقود، بل في السنوات القليلة القادمة.