عالم أميركا يتهاوى.. والاعصار قادم
يونس عودة
دخلت الولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا في دائرة الأعاصير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد كشف الصورة الحقيقية أمام العالم على الرغم من حروب التضليل التي ما زالت تُمارس على كل المستويات. إلا أن الانفجار الاجتماعي داخل المنظومة الغربية وفي كل بلد على حدة ليس ببعيد، حيث بدأت مؤشراته تظهر بقوّة في المشهد العالمي، مع تبلور صيغ المواجهة من جانب الدول والمجتمعات، التي سارت بالرغبات الأميركية القاتلة حتى أنفاسها الأخيرة.
بلا أدنى شك الصراع الأميركي الداخلي بين الحزبين الأكثر خطرًا - أي الجمهوريين والديمقراطيين- عشية الانتخابات الرئاسية، وما يستخدم فيه من أوراق قذرة، سوف ينعكس بشدة على مكونات الحلف الأطلسي وعلى مصير أوروبا واتحادها بشكل خاص. وقد عبّر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس عن "السيناريو الأسوأ" لأوروبا وهو قدوم رئيس أمريكي يقرر أن ينأى بنفسه عن أوروبا وحلف "الناتو"، حينها سيتعين على الدول الأوروبية مواجهة تحديات كبيرة يصعب تخيلها الآن من دون أن يلحظ أن المانيا هي من وضعت نفسها في الموقع الأكثر تعقيدًا في الاتحاد الاوروبي جراء انصياعها الأعمى للأوهام الأميركية، ولا سيما في أوكرانيا، وتغطية الأعمال الأميركية الترهيبية سواء بمنع برلين من تسيير خط الغاز الشمالي أو حتى بتفجيره وارتداد الخسارة الكبرى على المانيا نفسها كأكبر مستفيد من "السيل الشمالي". لا بل تواطأت مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمحاولة اقناع شعوبهم والعالم بأسره بأن ما اعتمدوه من سياسات في أوكرانيا لا يؤدي إلى زيادة المخاطر الاستراتيجية.
إن الإدارة الأميركية الحالية، التي ستواجه أزمات اقتصادية ومالية أكثر في الأشهر القادمة، تدرك المخاطر المحدقة بالولايات المتحدة والمصاعب الدولية في ظل سياساتها الوقحة، ولذلك تعمد الى استخدام أوراق قذرة في معركة الرئاسة، لم تُستخدم من قبل حتى في الدول الأكثر تخلّفًا. في هذا السياق، قررت هيئة محلفين في نيويورك توجيه اتهامات جنائية للرئيس السابق دونالد ترامب، أحد المنافسين الأساسيين في الانتخابات الرئاسية، بعد تحقيق في دفع 130 ألف دولار لـ"ممثلة أفلام اباحية" مقابل صمتها بشأن علاقة مزعومة بينهما، وهو ما نفاه ترامب واعتبر المسألة مسيّسة، لتغدو هذه الـ"ممثلة" وحدها دون غيرها هي من يقرر فعلًا من سيكون الرئيس الأميركي المقبل. وبغض النظر عن نفي ترامب ارتكابه أي مخالفات قانونية أو صحة الادعاء عليه بهذا الشأن، يمكن أن تشكل شهادتها مفاجأة تغير مسارات سياسية، لكنها لا يمكن أن تغير في الأزمة الاقتصادية المتصاعدة أكان في الولايات المتحدة أو الغرب عمومًا.
بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الأمريكية، فإن الأزمة الاقتصادية والمالية والأخلاقية تتفاقم، وأصبحت الأخيرة شعارًا للمعركة الرئاسية. وفي هذا السياق، تعهّد دونالد ترامب باتخاذ إجراءات صارمة ضد "جنون المتحولين جنسيًا" وإلغاء سياسات الرئيس جو بايدن بشأن رعاية "تأكيد الجنس للأطفال المتحولين جنسيًا". كما شدد على أنه "سيحافظ على انضباط الرياضة النسائية ويمنع المشاركة فيها للرجال" إذا أُعيد انتخابه رئيسًا.
لقد راكمت الولايات المتحدة نفوذها على العالم بعد الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب كقوة عظمى من خلال اقتصادها القائم على الاستيلاء على الأراضي والموارد واستغلال الشعوب والاستفادة من المشاكل العسكرية للدول الأخرى، واللجوء الى الثورات الملونة التي ارتدّت على صناعها، وها هي في خضم أكبر أزمة اقتصادية ومالية تبحث عن موارد من دول طالما كانت بالنسبة لها أبقارًا حلوبة، مع ديون تزيد عن 31.5 تريليون دولار، بحيث إن القوة المالية التي بنيت على حساب طباعة العملة، برز فشلها، كما ستفشل المحاولات اللاحقة لحل أي مشاكل اقتصادية من خلال إصدار الأموال. وإذا لم تحدث مفاجآت، فإن الاقتصاد الأمريكي سيكون بحالة كارثية بحلول صيف عام 2024. فالانهيار المصرفي الذي بدأ والإفلاس اللاحق لنصف الاقتصاد، أو ارتفاع التضخم نتيجة استئناف طباعة النقود غير المغطاة، سيضغط بشكل كبير على الجماهير التي لن تبقى صامتة
إن نهج التضليل الذي نشرت ايقاعاته وأساليبه الولايات المتحدة كما في المانيا النازية عشية الحرب العالمية الثانية وخلالها من ضمن سياسة السيطرة على العقول وتدجينها على خلفية ما يجري في اوكرانيا بدأت تنهار حتى بين الملحقات الاطلسية. وفي السياق أعلنت الرئيسة السلوفاكية زوزانا تشابوتوفا عن انخفاض في الدعم الشعبي لأوكرانيا داخل سلوفاكيا. وقالت: "فيما يتعلق بالمساعدة العسكرية المحتملة، فإن مواردنا محدودة، إذا لم نستثمر في صناعة الدفاع الخاصة بنا، فسنبقى عزّلًا. كما أن الدعم العام لأوكرانيا آخذ في الانخفاض". وقالت تشابوتوفا: "تستخدم المعلومات المضللة والتفسير الخاطئ لتقليل الدعم العام لخطواتنا. ولهذا السبب تتسع الفجوة بين القرارات التي تتخذها الدولة وموقف مواطنينا تجاه ما يحدث".
في كل أوروبا، يتعاظم النفور من السياسات الأميركية ولا سيما الاستعمارية العسكرية، والأكاذيب المبرمجة المرافقة لها كمسوغات حضارية مثل الديمقراطية والحرية، مع التمادي في التبرير الممجوج ولو كان مصاحبًا باعتراف سطحي على أنها مجرد أخطاء، تمامًا مثلما وصف الممثل السامي لشؤون السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الحروب التي أطلقها الغرب في العقود الأخيرة بـ "الأخطاء". ومن دون أن يجرؤ على تسمية من كان السبب في "الأخطاء" الكارثية على المستوى الانساني والأخلاقي والاقتصادي بأي شكل من الأشكال، كما أنه لم يحدد من يتحمل مسؤولية الجرائم المرتكبة، ولماذا لم يعد الرأي العام في البلدان المستهدفة والتي عانت من الاستعمار، يصدق الغرب.
لا شك أن العالم مقبل على تغيير مهم، وهو يلفظ السياسات الغربية. حتى أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، اعترف بأن الوضع القائم بعد الحرب العالمية لم يعد موجودًا، وأن هناك منافسة شديدة جارية لتحديد ما سيأتي. ويبدو أن الأهواء الأميركية - الأطلسية ستعمد الى مزيد من عسكرة أوروبا، والعمل على نوع جديد من الحروب ستكون النووية فيها ورقة قاتلة، لا سيما مع مزيد من التورط في أوكرانيا، ودفع الأوروبيين إلى مستوى أعلى من العداء لروسيا والصين وايران. ولذلك أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضي بيلاروس، وهو وفق استراتيجيين أحبط مخططات واشنطن لإضعاف روسيا. ولم يكن مجرد رد على استفزازات "الناتو" السابقة والحالية، بل هو رد استباقي على الإجراءات المستقبلية المحتملة من جانب الولايات المتحدة.
إن كل جولة من جولات الصراع الحالي تصبح أكثر تدميرًا أضعافًا مضاعفة من سابقتها. ولم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية وبيادقها خيارات متعددة بعد اعلان الصين أن الجيش الصيني على استعداد للعمل مع الجيش الروسي لتعزيز الاتصال والتنسيق الاستراتيجيين، وأن البلدين سيتعاونان في تنفيذ مبادرات أمنية عالمية، كما أنهما سينظمان دوريات بحرية وجوية مشتركة، وسيعملان على تعزيز الثقة العسكرية وحماية الإنصاف والعدالة الدوليين بشكل مشترك. وكذلك بعد العلاقة الايرانية الاستراتيجية مع روسيا والصين وكذلك مع توسع دول بريكس، ومنظمة شنغهاي، وكذلك مواجهة السياسات الأميركية في "الشرق الاوسط " وآسيا وافريقيا عمومًا، وموت ما سمي الثورات الملونة، وتكبيل دور الأدوات الارهابية الى حد بعيد من جانب محور المقاومة تحديدًا.
سيكون لكل مجتمع في العالم بصمته في رياح التغيير القادم، ما لم يختر بعضها السير على نهج سياسات البشاعة الأميركية وتجاهل الحقائق.