عمالقة فلسطين أعادوا البوصلة إلى الاتجاه الصحيح…
أحمد بهج
طغى المشهد الفلسطيني المقاوم على كلّ ما عداه، وأخذَ عمالِقة فلسطين وأبطالها كلّ الصورة، وسلّطوا الضوء مجدّداً على الأساس الفعلي لمشاكل المنطقة بشكل عام، إذ لا يمكن لأيّ مراقب من خارج المنطقة، وبالطبع لا يستطيع أيّ مواطن عربي أن يتحدث عن مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها إلا إذا بدأ من أصل هذه المشاكل كلها…
لا شكّ أنّ الجميع يُدرك أنّ إنشاء كيان العدو «الإسرائيلي» فوق أرض فلسطين شكل نقطة البداية لكلّ ما تبعه من أحداث في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمّ السطو على جزء هامّ جداً من أرض فلسطين، ثمّ توسّعت تلك السيطرة لتصل إلى أجزاء هامة أخرى من أرض الأردن وسورية ولبنان ومصر… مع ما يستتبع ذلك من أطماع في الثروات التي تختزنها هذه الأرض، وبشكل خاص النفط والغاز والمياه، وأيضاً الإنتاج الزراعي والسياحي.
كلّ هذا، مع أسباب أخرى داخلية في كلّ كيان، أدّى إلى حرمان شعبنا من فرص كثيرة على صعيد التنمية كانت ستجعل من وطننا العربي كله واحة نمو مُستدام يعيش فيها المواطنون باطمئنان إلى حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم الطالعة.
لكن ضرورات المواجهة من جهة، وتقصير الحكام من جهة أخرى، جعلتنا نتأخر ونتراجع اقتصادياً وإنمائياً مع استثناءات قليلة جداً أتت بشكل غير مدروس بفعل فورة النفط التي بدأت تظهر أموالها منذ الخمسينيات، أو أتت بعض الاستثناءات نتيجة وجود حاكم هنا أو هناك خطط وأقام مشاريع إنتاجية تنموية محلية لمصلحة الناس، لكن مع غياب هؤلاء الحكام انتهت مشاريعهم وجرى استبدالها بالتبعية إلى الخارج الذي يريد رهن قرارات الأقطار العربية كلها لمصلحة مشاريعه الاستعمارية، ومَن لم يمتثل للأوامر افتعلوا له حروباً داخلية من خلال مجموعات الإرهابيين الذين تأمّن لهم السلاح والمال والإعلام لكي يقوموا بدورهم في الهدم والتخريب…
ألم يحصل ذلك خلال مراحل متفاوتة في مصر وسورية والعراق وليبيا والجزائر وغيرها؟ ونحن في لبنان ألم نكن أكثر من اختبر هذا الأمر حين دخلنا في أتون الحرب الأهلية التي أوقفت المسار التصاعدي للاقتصاد اللبناني الواعد؟
ثم أتى بعد الحرب مَن أخذ اللبنانيين من ثقافة الإنتاج إلى متاهات الاستهلاك وأقنعهم بالاتكال على الفوائد والريع والمضاربات المالية والعقارية، حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة لم يعد فيها إنتاج ولم تبقَ أموال يمكن الاتكال على فوائدها، هذا إذا كانت المصارف قادرة على دفع الفوائد طالما أنها مقصّرة في إعادة أصل الودائع!
ومع الأسف الشديد أنّ هناك مَن لا يزال يرهن قراره للخارج، والمشكلة الكبرى أنهم يرهنون قرار البلد أيضاً، ويُفوّتون كلّ الفرص الإنقاذية التي تعيد الاقتصاد الوطني إلى ضفة الإنتاج بدل سياسة انتظار هذا الخارج أو ذاك لكي يتصدّق علينا بنتف قليلة من المساعدات ويُغرقنا أكثر فأكثر في الديون والفوائد، حتى أننا بتنا نستدين من البنك الدولي ثمن خبزنا اليومي!
لو كان هناك مسؤولون مستقلون فعلاً هل كان يمكن أن يرفضوا هبة الفيول المجاني من إيران، فيما الكهرباء غائبة أو مُغيّبة عن اللبنانيين بقرار معلوم ـ مجهول؟
وهناك أيضاً العروض الروسية والصينية والإيرانية بإقامة مشاريع إنمائية إنتاجية تحرّك دورة الاقتصاد الوطني وتجعل عملية الإنقاذ تنطلق على أسس صلبة ثابتة…
أولاً لأنها مشاريع استثمارية هامة جداً، تتعلق بسكك الحديد والطرقات والأنفاق لا سيما نفق حمانا ـ شتورا، وإنشاء مصفاة نفط تغطي حاجة لبنان وتعيد تصدير الباقي إلى الدول القريبة والبعيدة، وإقامة معامل إنتاج الكهرباء، ومعالجة موضوع النفايات وغير ذلك من حلول لقطاعات أخرى مأزومة.
ثانياً لأنها مشاريع لا تحتاج إلى تمويل من الخزينة اللبنانية التي أفرغها الذين ينفذون أجندات الخارج، بل هي مشاريع مموّلة على طريقة BOT من الدول التي قدّمت العروض بشأنها، فالروس يموّلون إنشاء مصفاة النفط، والصينيون يموّلون مشاريع الطرقات والأنفاق، والإيرانيون يموّلون إقامة معملي كهرباء لإنتاج نحو 2000 ميغاوات، بما يعني أنّ هناك أموالاً طازجة (fresh) حسب التعبير الدارج اليوم، ستدخل إلى لبنان تقدّر بنحو أربعين مليار دولار إلى أن تنتهي الأشغال في هذه المشاريع تباعاً خلال ثلاث سنوات. من دون أن يشكل ذلك أيّ عبء على المالية العامة لأنّ التمويل ليس ديناً على لبنان لأنها كما قلنا تُموَّل على طريقة BOT.
هذا المسار لا يستطيع السير به الخائفون على مصالحهم الخاصة، والذين يتلقون التعليمات من الخارج، وهم يعلنون ذلك على الملأ من دون أن يرفّ لهم جفن.
هناك مثال واضح جداً على ذلك هو الترسيم البحري، حيث كان الخائفون على مصالحهم قد وقّعوا عام 2007 على الخط رقم 1، أيّ أنّ العدو «الإسرائيلي» كان بإمكانه أن يُنقّب عن النفط والغاز في بحر صيدا، بينما الذين لا مصالح خاصة لهم وليست لديهم حسابات في مصارف خارجية استطاعوا تحقيق الإنجاز وفرضوا على العدو ومن يقف خلفه كلّ ما يريده لبنان، والأهمّ أنهم فرضوا عدم عرقلة التنقيب والاستكشاف والحفر من الجانب اللبناني.
هذا الأمر يبدو أنه يأخذ مساره المقبول حتى الآن، بدليل التوقيع الذي حصل أمس في السرايا الحكومية بمساعٍ حثيثة من وزير الطاقة الصديق الدكتور وليد فياض، حيث دخلت شركة «قطر للطاقة» كشريك مع «توتال إنيرجيز» الفرنسية و»إيني» الإيطالية، ضمن اتفاقية استكشاف وإنتاج الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، ما سيُشكل انطلاقة لمرحلة جديدة تساهم في تثبيت موقع لبنان على الخارطة البترولية.
لكن المستغرب جداً بالنسبة للاقتصاديين هو عدم تأثير هذه الاتفاقية على سوق القطع في لبنان، إذ انّ حدثاً من هذا النوع يُفترض أن يُعزّز قيمة العملة الوطنية ويُخفض سعر صرف الدولار بنسبة جيدة، لكن أولئك المرتهنين للخارج لا يريدون للبنانيين أن يروا أيّ بصيص أمل إلا إذا تخلوا عن كرامتهم الوطنية وتنازلوا أمام العدو وأعطوه ما يريد…!
والمسألة التي يجب النظر إليها هنا هي هل انّ التنازل والتخلي يحلّ أزمات لبنان المتراكمة؟ الواضح من الأمثلة التي نراها في دول عربية أخرى تنازلت وأبرمت اتفاقات سلام مع العدو برعاية أميركا وأوروبا أنّ هذا المسار التنازلي لا يحلّ أيّ مشكلة، وهذه مصر وما يحصل فيها اليوم أبرز نموذج…
أما المسار المقاوم فهو الذي يفرض الحلول ويحفظ الحقوق والكرامات… هذا ما تفعله المقاومة في لبنان، وهذا ما تفعله سورية، وهذا ما يفعله عمالقة فلسطين الذين أعادوا البوصلة إلى الاتجاه الصحيح، وانّ غداً لناظره قريب…