– خلال سنوات شكل منتدى دافوس القيادة الاقتصادية للعالم في زمن ثورة المعلومات والاتصال، حيث اللاعبون الكبار في البورصات ومن خلفهم المحللون والأكاديميون الذين يروّجون الاقتصاد الافتراضي، يرسمون ملامح الاقتصاد العالمي سنة بسنة. وينعقد منتدى دافوس هذه السنة والعالم قد تغير، والتغيير أبعد من أزمة الطاقة التي تعصف بأوروبا، وأبعد من ظهور عالم متعدّد الأقطاب على الصعيد السياسي.

– التغيير الأهم يتمثل أولاً برد الاعتبار لاقتصاد الأصول الثابتة في مواجهة الاقتصاد الافتراضي، فقد أظهر فشل العقوبات الغربية على روسيا، التي استندت إلى أدوات الاقتصاد الافتراضي التي تمثلها منظومة السويفت، ومصدر قوة روسيا الرئيسي كان ما تمثل في اقتصاد الأصول الثابتة، وفي مقدمتها موارد الطاقة، ووقود اليورانيوم المخصب للمفاعلات الحديثة في العالم والغازات النادرة لصناعة أنصاف الموصلات، عدا عن موقعها في سلة الغذاء العالمية. ومثلها جاء صعود الصين إلى مكانة متقدمة في الاقتصاد العالمي من موقع هذا التفوق لاقتصاد الأصول الثابتة، الصناعة الحقيقية والمواسم الحقيقيّة، وانفضحت الكذبة التي كانت تقيم أهمية اقتصادات الدول بحجم انتاجها وفق الأرقام الافتراضية للسوق، لتقول إن روسيا بحجم اقتصاد يعادل 5% من حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي، هو اقتصاد لا يمكن الاستغناء عنه، وربما يكون أشدّ أهمية للاقتصاد العالمي من اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي.

– التغيير الذي لا يقلّ أهمية هو ظهور خطوط تجارة وشبكات أنابيب لنقل الطاقة، تربط منطقة أوراسيا دون المرور بمناطق ومعابر وممرات تقع تحت سيطرة الغرب، فظهرت أنابيب سيبيريا للغاز من روسيا إلى الصين، وظهر خط النقل المدمج بين الوسائط البرية والبحرية الذي يربط بحر البلطيق بالهند عبر روسيا وإيران مروراً ببحر قزوين وباكستان، ليتحرّر أكثر من نصف العالم من الخضوع للرقابة الغربية، مختصراً الوقت ومخفضاً الكلفة الى النصف تقريباً.

– التغيير الذي بلغ مرحلة متقدمة وهو في طريق النمو أكثر هو أن نسبة غير قليلة من التجارة العالمية، وهي التجارة البينية بين روسيا والصين والهند وإيران ودول وسط آسيا وتركيا ولاحقاً السعودية تتم بعملات محلية ليس بينها الدولار واليورو، وأن إقامة منطقة عملة رديفة جديدة لدول الشرق والجنوب يسير بخطى حثيثة، وأن دولاً كالبرازيل ومعها سائر دول أميركا الجنوبية اضافة لأفريقيا الجنوبية ومعها الكثير من الدول الأفريقية تنتظر إعلان ولادة عملة البريكس، التي ربما تحمل هذا الاسم، لتقاسم الدولار واليورو والذهب المكانة الأولى في التبادل التجاري.

– العالم يتغيّر بسرعة فهل سينجح المجتمعون في دافوس بالتحرّر من عنصرية الرجل الأبيض ليقرأوا التحولات ويسعوا لمواكبتها، أم سوف يفعلون ما فعله القيمون على جامعة بيكوكا في ميلانو الذين حظروا تدريس أدب دوستويفسكي على خلفية موقفهم من حرب أوكرانيا، ويقررون أن إفلاس روسيا مسألة وقت كما قالت ذات يوم رئيسة الاتحاد الأوروبي، وقد قالت أورسولا فون دير لاين في 17-4-2022 إن الدين الخارجي لروسيا قد بلغ 59 مليار دولار، واستنتجت ان إفلاس روسيا مسألة وقت، بينما نعلم نحن اللبنانيين أن بلداً كلبنان لم يفلس عندما بلغت ديونه عام 2011 59 مليار دولار، مع فارق أهمية رقم الدين بين لبنان وروسيا، واذا كان لبنان تحمّل دين المئة مليار دولار قبل أن ينهار، اي ضعف الناتج الإجمالي، فإن روسيا تتحمل ثلاثة آلاف مليار وفق معادلة الغرب للقياس بحجم الاقتصاد.

البناء