هكذا انتهك الأميركيون إنسانيتنا في "أبو غريب".. تفاصيل تروى للمرة الأولى
فاطمة خليفة
تفاصيل مؤلمة يحكيها محمد بلنديان للمرة الأولى، الشاب الذي سجن في أسوأ سجون العالم "أبو غريب" من دون أي تهمة، وتعرّض للتعذيب و"الانتهاك".
"أنا إنسان مظلوم كنت أزور الإمام الحسين وليس لدي أي انتماء سياسي، ماذا فعلت؟ وماذا كان ذنبي حتى ينتهكوني ويعذبوني ويدمروني؟؟".. محمد بلنديان، معتقل سابق في سجن أبو غريب.
بوجه متعرّق، ويدين ترتجفان، وملامح حادة، ووجه محمّل بالخيبات منذ 19 عاماً، يروي الإيراني محمد بلنديان لـ"الميادين" القصة التي غيّرت حياته إلى الأبد، قصة اعتقاله على يد القوات الأميركية في سجن "أبو غريب" في العراق، السجن الذي وصف مراراً بأنه أسوأ سجون العالم.
"في عام 2003، ذهبت إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف، والزيارة الأخيرة لي كانت لمدينة الكاظمية. في إحدى الليالي خرجت لأتناول العشاء، وخلال هذه اللحظة سمعت أصوات رصاص، فقال لي صاحب المطعم لا تخرج، وأنا لا أعرف اللغة العربية، فظننت أنه يقول لي أخرج بسرعة. كان هناك شرطة تجول في الشارع، سألني الشرطي من أين أنت؟ فقلت له: أنا إيراني".
بهذه الطريقة، وجد بلنديان نفسه في سجن أبو غريب، ظنّ في بادئ الأمر أن الذهاب إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة بات تهمة، والصلاة قد صارت جريمة، لكنه وجد نفسه لاحقاً متهم بتفجير فندق بغداد. أخبر معتقليه أين كان وقت تفجير الفندق، وأن لا علاقة له به، لكن هذا لم يعنِ شيئاً.
دخل بلنديان السجن، ولم يكن إلا رقماً في سجلات المحتلين الأميركيين، رقماً جديداً أدرجوه في القائمة. "لم يكن لدينا أسماء، كانو يعرّفون عنا برقم.. وبعد إعطائي الرقم، وضعوه في يدي كـ"الإسوارة"، قالوا لنا يجب أن تبقى في أيديكم". بقيت "الإسوارة" في يد بلنديان سنة و 7 أشهر، ذاق فيها أقسى أنواع العذاب، ما يخطر، وما لا يخطر في بال.
يتحدث بلنديان إلى الزميلة بيسان طراف التي أجرت المقابلة معه، عن طرائق التعذيب التي مرّ بها ومرّت عليه، يروي القصة وكأنه يعيشها الآن، وكأن تعذيبه ما زال واقعاً. بكت الزميلة بيسان غير مرة وهي تسمع قصة شبيهة لأفلام هوليوود التي تكون بإخراج أميركي عادةً. الإخراج كان أميركياً هنا أيضاً، حكى بلنديان كيف عذّبوه بالأمل تارة (الوعد الكاذب بإطلاق سراحه)، وكيف خلعوا عنه ثيابه، تارة أخرى، وكيف جعلوا منه وجبة لكلابهم، التعبير هنا ليس تعبيراً مجازياً لخدمة المعنى، جعلوا منه وجبة للكلاب فعلاً!
"الكلب الأسود عضّ رجلي وقطّع لحمها، أما الكلب الأصفر فلم يتركني، هدّدني الجندي الأميركي بأنه في حال تصدّيت للكلب سيقتلني، حينذاك أغمي عليّ، فأرسلوا إلي إمرأة أميركية، بدأت تخيط رجلي بالأبر من دون مخدّر ، وتضحك وتقول لي: أنت تتحمل الأوجاع". هذه قصة الكلاب التي أخبرنا عنها بلنديان، لكن هذا ليس كل شيء..
"هنا حذاء أميركي، وضعه الجندي على أضلاعي المكسورة من شدة الضرب، وطلب إلي أن أزحف به إلى غرفتي وهو واقف على ظهري. لا يمكن أن أصف لكم شدة الألم، كان يضربني برجله على خاصرتي، وأنا أزحف إلى زنزانتي". يضيف: "كنت دائماً أسمع صراخ فتاة يعذبونها أمام أخيها وأبيها، كان اسم أخيها علاوي. كنت أسمع أباها وأخاها يتوسلان إلى الجنود الأميركيين أن توقفوا عن تعذيبها..".
وعن الاغتصاب يقول بلنديان "في الطرف المقابل من زنزانتي، كانت زنزانة انفرادية للنساء، كنت أسمع صراخهن وأصواتهن وهن يتوسلن الجنود التوقف عن اغتصابهن".
كان لدى الزميلة بيسان عدد من الأسئلة عن الاغتصاب، كانت تريد أن تعرف إن كان بلنديان تعرض للاغتصاب أيضاً، لأن شهادات اغتصاب الرجال في السجن سيّئ السمعة كانت كثيرة، لكنّ الرجل كان يتكلم أمام زوجته وبناته الاثنتين، لذا فضّلت ألا توجّه إليه سؤالاً كهذا. تقول بيسان: "شعرت بأن في عينيه شيئاً مفقوداً، شخصاً يبحث عن الأمان، شخصاً يريد أن يقول للعالم كله: أميركا انتهكتني".
لاحظت الزميلة بيسان أن لون بشرة بلنديان حمراء جداً، فعرفت خلال المقابلة أنه يعاني مشكلات في الجهاز التنفسي من جرّاء نوبات البرد التي عاناها في فترة اعتقاله. تقول إنه دائم التوتر، غاضب، ويضغط على قبضة يده طوال الوقت.
يسمّى سجن "أبو غريب" حالياً سجن "بغداد المركزي"، ويقع قرب مدينة أبو غريب التي تبعد 32 كيلومتراً إلى الغرب من العاصمة العراقية بغداد، واشتهر باستخدامه من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وإساءة معاملة السجناء فيه.
قبل أعوام، نشرت وزارة الدفاع الأميركية 198 صورة تظهر التعذيب الوحشي الذي مارسته القوات الأميركية على المعتقلين في العراق وأفغانستان، وجاء نشر هذه الصور ليلة السادس من شباط/فبراير عام 2016 بعد مرافعات قضائية استمرت 12 عاماً، منذ تفجر فضيحة سجن أبو غريب في العراق عام 2004، في حين امتنع البنتاغون عن نشر مئات الصور الأخرى.
أبرز الصور المنشورة وأكثرها شهرة كانت صور محمد بلنديان وهو خائف بعد هجوم كلب عليه، والصورة الأخرى كانت للمجندة الأميركية التي قرّرت أن تخيط جرح بلنديان من دون مخدر. هذه المرة الأولى التي يعترف فيها بلنديان لوسيلة إعلامية عربية أنه صاحب الصور المشهورة، وأنه صاحب مشاهد التعذيب التي تعرّي "الديمقراطية الأميركية".
كان بلنديان يصبغ السجاد ليعيل أسرته، لكنه لا يستطيع العمل اليوم في أغلب الأوقات لأن جهازه التنفسي غير طبيعي. لكنه يريد أن يعاقب أميركا على تحويل حياته إلى قصة حزينة. ويجهد ليطلع العالم على أميركا التي تدعي الإنسانية والرفق بالإنسان. "هؤلاء لا يتمتعون بالإنسانية، الأميركيون لا يعدون سائر الناس بشراً، هم يرون أنهم وحدهم البشر، ولو أنهم يعتقدون بإنسانية لما ارتكبوا كل هذه الجرائم".
يعرّف بلنديان سجن "أبو غريب" بأنه "انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، وبأنه يجمع كل أنواع التعذيب والاغتصاب والظلم والاضطهاد في العالم، وبأنه سنوات صعبة من الانتظار وحرمانه رؤية أسرته".
يحكي ولا يريد أن ينتهي،يريد الحديث الآن عن فصل من قصة حزينة هزّت ضمير العالم، يريد أن يقول للأجيال القادمة إن أميركا ليست كما تدّعي وليست كما ترونها، ولديها في حديقتها الخلفية دائماً حقيقة أخرى".
لا يريد بلنديان أن يكون مجرّد رقم، لذا قرر أن يبوح لـ"الميادين" بما حصل، ويؤكّد أن أحداً من معتقلي سجن "أبو غريب" لم يتمكّن من العودة إلى ما كان عليه بعد الإفراج.