ما بعد بعد حيفا وكاريش
ايهاب زكي
وضع السيد حسن نصر الله الكيان المؤقت أمام معادلة واضحة ومحددة، والأهم أنّها لا تحتمل التسويف، والأكثر أهمية أنّها لا تحتمل التأويل، لا نفط ولا غاز لأحد، قبل حصول لبنان على ثرواته عملياً لا نظرياً، أيّ أنّه إن لم تأت الشركات للعمل في المياه اللبنانية، ستغادر جميع الشركات شرق المتوسط، وإن متُّ ظمآنَ فلا نزل القطرُ.
أمّا الخيار المتبقي فهو التعنت "الإسرائيلي"، والإصرار على الذهاب لحدودٍ قصوى في الحماقة، اتكاءً على وعودٍ أمريكية أو "كرنفالات" تطبيعية، هنا ستكون الحرب هي النتيجة الحتمية، وهي الحرب التي حسم السيد نتائجها مسبقاً، برضوخ العدو قبلها أو في بدايتها أو منتصفها أو نهايتها، ولكنه رضوخٌ على كل حال، أي أنّ المقاومة تتعامل باعتبار أنّها دخلت الحرب وانتصرت وانتهى الأمر.
وهنا على سبيل المفارقة، في خطابه السابق اعتبر السيد حسن نصر الله، أنّ تعنت العدو في قضية الحدود البحرية، يخاطر بوجوده، بمعنى أنّ اندلاع الحرب سيكون خطيراً على وجود الكيان، وليس فقط مجرد هزيمة جديدة، تُسجل في صحيفة هزائمه المتلاحقة منذ العام 2000، بينما في هذا خطاب الأمس، قال قد يرضخ العدو قبلها أو في منتصفها أو في نهايتها، وبما أنّ السيد لا يتناقض، يستطيع الكيان المؤقت اعتبار أنّ الرضوخ قبل وقوع الحرب هو أقصر الطرق لضمان البقاء المؤقت، أي تأجيل الزوال المعجل.
أمّا الرضوخ المحسوم سلفاً، فيما لو وقعت الحرب، لا يستطيع أحدٌ ضمانه مع البقاء، فقد يكون رضوخاً عن غير قرار، حيث "ينقلع" الكيان من أطرافه إلى جذوره، وحينها لا وجود لمن يوقّع وثيقة استسلام، ولكن هذا خيارٌ سيظل مستبعداً، فيما لو رضخ الكيان المؤقت في بداية الحرب، أمّا الوصول إلى منتصف الحرب، سيكون بمثابة طريقٍ بلا عودة، ورحلةً باتجاهٍ واحدٍ نحو الفناء.
تيمناً بمعادلة حيفا وما بعد بعد حيفا، أطلق السيد معادلةً جديدة، كاريش وما بعد بعد كاريش، والدلالة في المضمون كما أسلفنا في مقدمة المقال، لا نفط ولا غاز لأحد دون لبنان أو قبله، أمّا في الشكل، فهي تعني أن زمن الانتصارات هو سلسلة واحدة لا انفصام بينها، وأنّ عدوان تموز 2006، يُعتبر بدايةً متواضعة مقارنة بالتحولات الانقلابية التي حدثت بعده، كما اعتبر السيد نصر الله أنّ المسيرات الثلاث فوق حقل كاريش بداية متواضعة لما سيحدث بعدها.
وإذا اتخذنا من هذا المنطق مقياساً، لا يمكن الوصول إلّا لاستنتاجٍ وحيد، وهو الزوال القطعي للكيان المؤقت، فالمسار التصاعدي لانتصارات المقاومة بعد 2006، كما مسار التراكم الكمّي والنوعي لقدراتها، كذلك التصاعد في تشكُّل والتئام واتضاح معالم نهائية لمحور المقاومة، يشي بأنّ اعتبار السيد للمسيرات الثلاث بداية متواضعة، مع الأخذ بعين الاعتبار إشارته لقدرات المقاومة براً وبحراً وجواً، وقدرتها على إرسال المسيّرات متنوعة الحجم متعددة المهام وبأعدادٍ أكبر، سيكون بمثابة البركان الذي سينفجر ويجرف الكيان في طريقه، وقد علمتنا تجربة حزب الله، أنّ البدايات المتواضعة لا تعني إلّا النهايات العظمى.
إنّ لبنان كما قال السيد حسن نصر الله، لا يستطيع الاتكال سوى على المقاومة، فهي ورقة القوة الوحيدة التي يملكها، في المقابل فإنّ الكيان المؤقت لا حائط ليستند إليه، سوى كرتون التطبيع، وشعبويات المختلّ نفسياً أفيخاي أدرعي، أمّا الرهان على الحماية الأمريكية، فهو رهانٌ بعيد المنال حالياً، حيث إنّ التدخل الأمريكي المباشر عسكرياً، محفوفٌ بمخاطر الهزيمة الحتمية، لأنّ المواجهة ستصبح على كامل جغرافيا المنطقة، وهذا بدوره محفوفٌ بمخاطر توسع المواجهة لتصبح عالمية، وهذه مواجهة لا أحد يريدها، حتى لو كان الثمن زوال الكيان، ولنا في الحرب الأوكرانية برهانٌ واضح على أنّ هذه المواجهة يتجنبها الجميع.
إنّ هذه الحرب إن وقعت، ستكون الحرب الأشرف والأعزّ في حدودها الدنيا، كما قال السيد بأنّ الموت فيها أشرف وأعزّ من الموت في طوابير الخبز أو البنزين، فإذا كانت الحدود الدنيا للحرب هي الشرف والعزة، فكيف لنا بمعرفة حدودها القصوى وذرواتها؟ وكيف تكوِّر ألقاً فوق ألق، وكيفية تراكم تاريخ فلسطين فوق تاريخ خيبر؟