الدبلوماسيّة اللبنانيّة في خدمة مَن؟ بين طوائف الدولة ودولة الطوائف…!
د. عدنان منصور
ليس هناك من بلد في العالم يحترم نفسه، يشهد ما يشهده لبنان، عندما تريد وزارة خارجيته أن تقوم بإعداد التشكيلات والمناقلات الدبلوماسية المعتادة وفقاً لنظام وزارة الخارجية والمغتربين.
في كلّ مرة تهمّ الوزارة بإعداد التشكيلات، ينبري على الساحة ما هبّ ودبّ من مسؤولين، وسياسيين، وزعماء، ونافذين، وسلطات روحية وزمنية، كلها تريد أن تضع إصبعها في إعداد التشكيلات، ليطالب كلّ واحد بتعيين هذا او ذاك في بلد يلبّي رغبته وهواه، بمعزل عن كفاءته، وأدائه، ونشاطه الوظيفي. وكأنّ الخارجية وسلكها الدبلوماسي بازار سياسي في خدمة تجار السياسة وأصحاب النفوذ والمصالح الشخصية.
معيب جداً على دولة تفسح المجال للطارئين، والنافذين، أن يتدخلوا في تعيينات ومناقلات وترفيعات الدبلوماسيين، ويضعوا شروطهم المسبقة عليها، دون الأخذ بالاعتبار الأصول والقوانين المرعيّة، وصلاحيات وزير الخارجية الذي هو المسؤول الأول عن إعداد وتحضير التشكيلات التي تستند أول ما تستند إلى معايير ترتبط بالدبلوماسيين لجهة النزاهة، والكفاءة، والأخلاق، والجدية، والمسؤولية الوطنية.
لا يريد المتدخلون الذين يزجّون بأنفسهم في التشكيلات من خارج الوزارة، الرجل المناسب في المكان المناسب، بل يريدون مَن يناسبهم، ومَن هو محسوب عليهم سياسياً، وطائفياً، ومناطقياً، وانتخابياً.
لهؤلاء نقول بصوت عالٍ، ارفعوا أيديكم عن وزارة الخارجية والمغتربين، وتوقفوا عن المحاصصة التي دمّرتم بها هيبة الدولة وأسسها ومؤسساتها! اتركوا وزارة الخارجية تؤدّي دورها وعملها، لتقوم بمهامها. فهي أدرى بشعابها، وأدرى بدبلوماسييها، وهي التي تعرف جيداً ملفاتهم الشخصية، ومن فيهم الكفؤ والنزيه، والمستقيم، والنشيط، والخلوق، والجدير بتقلد مركز من المراكز التي يستحقها، والذي منه يستطيع ان يخدم مصالح لبنان ويدافع عن قضاياه الوطنية، وعن حقوق شعبه…
كفى عبثاً بالقوانين والأعراف والأصول، وكفى مهزلة نتيجة تصرفاتكم البشعة، وزجّ أنفسكم في مكان لا دخل لكم فيه. لقد جعلتم من بلدنا التعيس بسبب سياساتكم القبيحة العجيبة، أضحوكة السفارات الأجنبيّة في لبنان، وكلّ من يتابع عن قرب شؤون وزارة الخارجية وأوضاعها! إذ يتندّرون بسياساتكم
وأساليبكم، وتدخلكم الفاضح في عمل السلك الدبلوماسيّ الذي لم يشهدوا مثيلاً له، لا سيما عندما تتناول وسائل الإعلام التشكيلات والأسماء والمراكز، ونموج معها في الهرج والمرج، حيث أصبحت بورصة التشكيلات الدبلوماسية في لبنان، ولوائحها التي تتعدّل مع كلّ طلب، أشبه ببورصة رياض سلامة وقرارات جمعية المصارف المتذبذبة!
هل تقبل كرامة الدبلوماسيّين أن ترى شخصاً ما من خارج الوزارة، ينصّب نفسه شريكاً في إعداد التشكيلات الدبلوماسية؟! نحن نعرف جيداً انّ للبنان مندوباً دائماً لدى الأمم المتحدة، لكننا لا نعرف انّ لأحدهم في لبنان مندوباً دائماً لدى وزارة الخارجية، يحمل في جعبته من آن إلى آخر أسماء محظوظين يريد موكله، تعيينهم في مراكز مهمة معينة مثل واشنطن والفاتيكان، وروما وغيرها، خصيصاً له في البعثات الدبلوماسية، ظناً منه أنهم يستطيعون “الترويج” له، لمنصب “الحلم الرفيع” الذي يطمح اليه مستقبلاً.
فـ بأيّ صفة، وبأيّ حق، وبأيّ مسوّغ قانوني يأتي هذا “المندوب الدائم” الى الوزارة بأمر من موكله، لمتابعة إجراءات التشكيلات والتعيينات، ووضع بصمته عليها، في الوقت الذي لا ينفك فيه “الموكل” الحديث في كلّ مناسبة عن دولة قوية عادلة، واحترام القانون، ومحاربة الفساد؟! أوَليس التدخل في التشكيلات الدبلوماسية ـ يا هذا ـ فساداً ما بعده فساد؟! وبأيّة صفة يحضر مندوبك الى الوزارة، وبموجب أيّ قانون، وأيّة صفة تخوّله متابعة شؤون وزارة الخارجية وعملها، والتدخل في تعييناتها، وتقييم أداء دبلوماسييها؟! وما الذي يعرفه “مندوبك الدائم” عن سير الوزارة وعمل سفاراتنا، كي يختار بأمر منك هذا المركز أو ذاك، الشخص الذي يحظى “بعطفكم ورعايتكم” لمركز ما في البعثة الدبلوماسيّة؟
قولوا لنا أيّة دولة وأيّة سفارة تسعون اليها وتريدونها؟ أهي على قياسكم وقياس مصالحكم الشخصية، أم على قياس الوطن؟!
اتركوا الدبلوماسية اللبنانية تقوم ورئيسها بدورها الوطني، إذ فيها نخبة كبيرة من الدبلوماسيين المحترفين والواعدين. اتركوا المجال لهم، وحرّروهم من الأوصياء، والوكلاء، وليتوقف الطارئون المتدخلون في شؤون وزارة الخارجية، عن تسييس التشكيلات، وأخذها الى مواقع طائفية ومناطقية ضيقة.
اعلموا أنّ سفراءنا ودبلوماسيينا يمثلون لبنان في الخارج، ولا يمثلون زعماءهم ولا طوائفهم ولا مناطقهم. فهم لكلّ لبنان، فلا تحجّموهم لمصالحكم الأنانية، التي خلفت وراءها المصائب والكوارث التي نعيشها اليوم، والتي هي نتيجة سياساتكم العشوائية الفاشلة.
ارفعوا ايديكم عن وزارة الخارجية، وافرجوا عن التشكيلات، واتركوا الوزارة تضطلع بمهامها وتأخذ دورها وصلاحياتها أسوة بوزارات الخارجية في دول العالم، التي تلتزم بالأصول والقوانين والأعراف الدبلوماسية، ولا تشهد فلتاناً بسبب تدخل مسؤول من هنا، أو صاحب نفوذ من هناك، مثل ما نراه في لبنان من تهافت وتزاحم طبّاخي التشكيلات الدبلوماسية التي تضيع وتتيه بين تجاذبات طوائف الدولة وزعماء دولة الطوائف !