عن تطورات الأزمة الروسية الأوكرانية
د. سنية الحسيني
يبدو أن الأمور في أوروبا تعود إلى نصابها تدريجياً، فرغم التصعيد الغربي ضد روسيا خلال الأيام القليلة الماضية، والترويج باقتراب لحظة الصفر بغزو لأوكرانيا، بهدف الضغط على روسيا للتراجع عن مواقفها، تحققت النتائج بشكل عكسي، أي لصالح روسيا. جاء إعلان موسكو الأخير بعودة جزء من قواها المحتشدة حول أوكرانيا إلى قواعدها، للرد على موقف أوكرانيا المحدث باستبعادها الذهاب لعضوية حلف الناتو، وهو ما يتفق حوله أيضاً العديد من القيادات الأوروبية اليوم. وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عدم استعداد بلاده لتحمل تبعات الغزو الروسي وحدها، بعد تأكيدات الدول الغربية بالاكتفاء بفرض عقوبات على روسيا في حال تمت عملية الغزو. ويبدو أن الخروج بهذه النتيجة، هو الهدف الرئيس الذي سعت إليه روسيا، في إطار عملية التصعيد الأخيرة التي شنتها ضد أوكرانيا.
لا تحتاج روسيا إلى غزو أوكرانيا الآن كي تحقق أهدافها فيها، والمتمثلة بإبعادها عن حلف الناتو. وكما يتضح الآن أن مجرد التلويح بالغزو، لتهديد أوكرانيا، أدى بالغرض المنشود روسياً. وغزت روسيا جزءا من أوكرانيا العام ٢٠١٤ وسيطرت على جزيرة القرم، وحافظت على مكانتها في البحر الأسود، ذي الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لها. كما كانت روسيا وراء القلاقل في شرق أوكرانيا وانفصال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الواقعتين في منطقة دونباس عن الحكومة المركزية، والتلويح باعترافها باستقلالهما، وسط رفض واعتراض غربي.
لم تخفِ روسيا سياستها تجاه أوروبا، إذ اعتبرت أن تقييد تمدد حلف الناتو تجاه الشرق، حفاظاً على مناطق نفوذها وضمان أمنها، يعتبر هدفاً استراتيجياً رئيساً لها.
وتحارب روسيا في أوروبا من أجل ضمان تحقيق ذلك الهدف مستغلة إرثها وتاريخها في القارة، والذي يعتمد على وجود امتداد سكاني وثقافي ولغوي في دول الجوار القريبة، أي دول الاتحاد السوفييتي السابق. وتعتبر روسيا أن حماية مواطنيها في الخارج من بين الأدوات التي تستخدمها لتحقيق أهدافها في القارة الأوروبية، وذلك لتبرير تدخلاتها واللجوء إلى القوة الصلبة إن اضطر الأمر، من أجل حمايتهم، في ظل تعريف واسع فضفاض لمفهوم المواطنة.
طرحت روسيا فكرة المواطنين في الخارج، والتي جاءت في عهد يلتسين العام ١٩٩٢، للإشارة إلى الروس الذين يعيشون خارج روسيا. وينسجم ذلك الطرح تماماً مع العقيدة الأمنية الروسية وآلية تحققها، وذلك بضمان استمرار تواصل روسيا مع دول الجوار القريب، من خلال المواطنين الروس. وركزت الوثائق الاستراتيجية الأمنية الروسية خلال السنوات الأخيرة على التأكيد على مفهوم المواطنين في الخارج، ووضعت الحكومة الروسية العديد من البرامج الحكومية لتعزيز علاقات روسيا مع مواطنيها في الخارج القريب.
ورغم أن روسيا لم تحتفظ تماماً بجميع دول الاتحاد السوفييتي السابق تحت هيمنتها المطلقة، إلا أنها نجحت في فرض رؤيتها على الدول الغربية، والتي تتعلق بالإقرار بمناطق نفوذها في أوروبا، وتقدم حيثيات وتطورات الأزمة الأوكرانية تفسير لذلك.
وتستخدم روسيا العديد من الأدوات لتحقيق أهدافها السياسية، المتمثلة بفرض مناطق نفوذها، ومنع تمدد حلف الناتو في إطارها، بدءاً بالأدوات الناعمة وصولاً إلى الصلبة منها، إذ إن معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي من أبرز أدوات قوتها الناعمة، في حين أن غزو جورجيا العام ٢٠٠٨ وأوكرانيا العام ٢٠١٤ يفصح بوضوح عن أدواتها الصلبة.
لم تخرج الولايات المتحدة من الأزمة الروسية الأوكرانية حتى الآن بأرباح، رغم محاولاتها لاستغلالها. وتسعى واشنطن من خلال هذه الأزمة إلى تأزيم العلاقة بين الدول الغربية المركزية وروسيا، خصوصاً في ظل التقارب الاقتصادي الروسي الألماني، الذي جسده مشروع خط أنابيب نورد ستريم ٢، بالإضافة إلى مشاريع اقتصادية أخرى بين البلدين، والتي قد تؤدي إلى مزيد من التقارب بين القطبين القاريين الروسي والألماني، ليس على المستوى الاقتصادي فقط، بل قد يمتد للمستوى السياسي وكذلك الأمني في مرحلة معينه، وهو ما لا تأمله واشنطن، إذ إن تقارب البلدين القويين لن يصب في مصلحة الولايات المتحدة، ومكانتها القطبية المنفردة، خصوصاً أن تحالف هذين البلدين تاريخياً جاء في غير مصلحة التحالف الغربي عموماً.
لم تقترب روسيا من ألمانيا فقط، بل من فرنسا أيضاً، والتي دعت العام ٢٠١٩ إلى إعادة العلاقات معها، وكذلك مع تركيا التي تحدت الولايات المتحدة للحصول على الصواريخ الروسية أس ٤٠٠، ما أشعل أزمة بين البلدين في حينه، وباتت روسيا الآن جزءا من المنظومة والقرار الغربي، وأحد أهم أسباب انقسام القرار الأوروبي تجاهها.
تعكس الأزمة الروسية الأوكرانية التحولات البارزة في المنظومة الدولية والتي تتحول باتجاه انحدار نظام القطبية الواحدة، والذي تحاول الولايات المتحدة دون طائل وقف انحداره. وبات جلياً أن الولايات المتحدة لا تواجه فقط الصعود الصيني السريع، بل الروسي أيضاً، وإن لم يكن على نفس مستوى الصعود الصيني. ولكن هل هناك حرب محتملة؟ لأن تخلخل النظم الدولية عادة ما يكون مصحوباً بحروب.