بعد انسحابها سريعاً من كازاخستان.. هل تفكّر روسيا في غزو أوكرانيا؟
شارل أبي نادر
الأساس فيما تشدّد عليه روسيا لضمان أمنها، على نحو نهائي وثابت، وتريده عبر وثيقة خطية رسمية واضحة، هو إنهاء أي فكرة أو محاولة أو قرار بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ونزع فكرة الأخير بشأن التوسع شرقاً نهائياً.
ربما لو كان الرئيس الروسي بوتين على رأس السلطة في الاتحاد السوفياتي السابق قبل نهاية عام 1991، لَما كان ليسمح بتفكك الاتحاد المذكور، بل من المؤكد أنه كان عمل المستحيل من أجل إبقائه متماسكاً وقوياً ومنتشراً، كما كان حينها، تماماً كما يفعل المستحيل اليوم في محاولة لتغيير ما استجد من تطورات ميدانية وعسكرية وسياسية تضغط على موسكو وتهدّدها، وذلك انطلاقاً من أغلبية الدول والمناطق المحيطة بالأراضي الروسية، من غربيّها (شرقي أوروبا)، ومن شماليّها (القطب الشمالي وبحر بارنتس)، وجنوبيّها (القوقاز وآسيا الوسطى)، بحيث سيكون من الصعوبة، في ظل هذه الضغوط الدولية الضخمة، أن ينجح في إجراء تغيير أساسي يستعيد من خلاله السيطرة أو النفوذ على أغلبية دول الاتحاد السوفياتي السابق، سوف يعمل المستحيل لمواجهة جهات الضغط التي تتعرّض لها روسيا اليوم، أو من اتجاه شرقيّ أوروبا، أو من اتجاه شمالي أو شمالي غربي آسيا الوسطى.
انطلاقاً من ذلك، من الواضح أن الدولتين الأكثر تأثيراً في الأمن الروسي، قومياً واستراتيجياً، واللتين يمكن أن تشكّلا تهديداً جدياً على روسيا من غربيها ومن جنوبيها، هما: أوكرانيا من اتجاه شرقي أوروبا، وكازاخستان من اتجاه شمالي آسيا الوسطى. وحيث سيكون من الصعوبة استعادة السيطرة على الدولتين المذكورتين معاً، فإنّ من المستحيل أيضاً، كما هو ظاهر بوضوح، أن يقتنع الرئيس بوتين بعدم السيطرة على إحدى الدولتين. فماذا سوف يختار: استعادة السيطرة على أوكرانيا، أو استعادة السيطرة على كازاخستان؟
تشكّل كازاخستان مساحة ضخمة مقارنة بأوكرانيا، كما تمتلك مروحة واسعة من الثروات الطبيعية، بين الغاز والنفط، تجعلها في مصاف الدول الأولى في توريد هذه الطاقات والثروات، وبالتالي الاستفادة من مبالغ ضخمة بديلة لها، وهذا الأمر سوف يزيد في قدرات روسيا وطاقاتها، على نحو غير مباشر، لو وجدت طريقة معينة للبقاء في كازاخستان.
كما أن جغرافية كازاخستان الشاسعة وحدودها الطويلة مع روسيا (7000 كلم)، تشكّل بالنسبة إلى الأخيرة فاصلاً استراتيجياً بينها وبين كثير من مصادر الخطر والاستهداف، والتي يمكن أن تتعرض لها من اتجاهات جنوبية، وتحديداً من اتجاه دول آسيا الوسطى، وما يمكن أن تحمله هذه الدول من أخطار وتهديدات، انطلاقاً من أراضيها، أو عابرة لأراضيها، من أجل استهداف الأراضي الروسية.
من النواحي العسكرية والاستراتيجية، تبقى أوكرانيا نقطة الارتكاز والتحدي الأساسي، بالنسبة إلى الصراع والمواجهة الباردة، والتي أصبحت في الطريق لتكون حارة جداً كما يبدو، بين حلف الناتو والروس. فهي موضع اهتمام واسع من الأميركيين والأوروبيين، ويعملون المستحيل اليوم من أجل إدخالها ضمن الحلف المذكور. وحينها، عندما تصبح عضواً، تكون حُكماً، واستناداً إلى بنود الناتو ونظامه، قاعدةَ انطلاق طبيعية لمواجهة روسيا، وللضغط المباشر عليها.
وما يؤكد، أو يؤشّر، بنسبة كبيرة، على أن روسيا لا تفكر في البقاء طويلاً في كازاخستان، وبالتالي لديها مشاريع متعددة، غير استعادة سيطرتها عليها، أنها سحبت وحداتها منها بسرعة، بعد أن كانت نشرتها بصورة مشروعة استناداً إلى طلب من رئيسها توكاييف، ضمن وحدات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، على خلفية الأحداث الأخيرة في كازاخستان. ولو كان لديها فكرة أو ميل إلى إبقاء تلك الوحدات، لكان ذلك ممكناً، وتحت عنوان مشروع أيضاً من ضمن معاهدة الأمن الجماعي، وبهدف مواجهة التهديدات الإرهابية الخارجية، والتي أشارت إليها موسكو بوضوح، متهمةً واشنطن بتحريكها.
حتى من الناحيتين الاقتصادية والجغرافية، تشكّل أوكرانيا واجهة روسيا الغربية والجنوبية الغربية الاقتصادية، لناحية تصريف الغاز والنفط الروسيَّين من جهة، أو لناحية ما يؤمّنه لها البحر الأسود أو المياه الاقتصادية الخالصة لأوكرانيا في البحر المذكور، من ثروات وإمكانات تجارية وبحرية، قد تُضاعف ثرواتها الحالية من الغاز والنفط، ومن أرباح التجارة الدولية.
من هنا، يمكن أن نستنتج الاستراتيجية الروسية غرباً، والتي أطلقتها منذ مدة غير بعيدة في محاولة جريئة، عبر طلب الضمانات من الناتو. وكما يبدو، لقد سقطت المحاولة الروسية الأخيرة، والتي طلبت موسكو من خلالها الحصول على ضمانات جدية من حلف الناتو، ومن الأميركيين، مفادها أن الحلف المذكور سيكفّ عن العمل على الإخلال بأمن روسيا، الأمر الذي من المتوقع "أن يدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات قاسية ضد الناتو"، كما أشار المحلل السياسي الروسي سيرغي ماركوف، الذي قال إن موضوع طلب روسيا وقفَ نشر صواريخ حلف الناتو وإجراء المناورات العسكرية قرب الحدود الروسية، قد يصل إلى نتائج إيجابية، ومن غير المستبعد، في رأيه، إمكان "التوصل إلى اتفاق للحدّ من انتشار الصواريخ المتوسطة المدى، وقاذفات القنابل الأميركية، عند الحدود الروسية".
لكنْ، عملياً في نظر روسيا، هذا يُعَدُّ غير كافٍ، لأن الوقف المتبادل لنشر الصواريخ بين غربي روسيا من جهة في مواجهة شرقي أوروبا من جهة أخرى، هو في مصلحة الناتو. والسبب هو تقني - عسكري، بحيث ما زالت واشنطن والدول الأوروبية تعتبر أن روسيا متفوقة حتى الآن في مجال الصواريخ، وخصوصاً فرط الصوتية، فتكون عبر ذلك (وقف متبادل لنشر الصواريخ) أزالت التفوق الروسي من هذه الناحية.
الأساس فيما تشدّد عليه موسكو لضمان أمنها، على نحو نهائي وثابت، وتريده عبر وثيقة خطية رسمية واضحة، هو التالي: "إنهاء أي فكرة أو محاولة أو قرار بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ونزع فكرة الأخير بشأن التوسع شرقاً نهائياً". وهذا هو الأمر الذي ما زال الأميركيون والأوروبيون يتهرّبون من التطرّق إليه أو الاقتناع به، معتبرين أنه لا يمكن لروسيا أن تقيّد قرار دولة ذات سيادة (أوكرانيا)، ومعتبرين أيضاً أن حلف شمال الأطلسي لا يمكن أن يرضخ لإملاءات روسية تمسّ موقعه وسيادته ونفوذه ودوره. والأهم من ذلك أنهم يعتبرون أن الجاهزية العسكرية الروسية، والانتشار "الهجومي" عند حدود أوكرانيا، كأنهما ورقة ضغط ضدهم للرضوخ في موضوع التزامهم عدمَ انضمام أوكرانيا إلى الحلف، ولن يرضخوا لهذه الضغوط الروسية.
ما يزيد أيضاً في مؤشرات القرار الروسي بشأن تحضير عمل ما تجاه اوكرانيا، ادعاءات وزارة الدفاع الأميركية بشأن نشر روسيا عناصر مدرَّبين على المتفجرات داخل أوكرانيا، من أجل تنفيذ عمليات تشكّل "ذريعة" لبدء الحرب ضد كييف، الأمر الذي نفاه بشدة المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في تصريح لوكالة "تاس" الرسمية الروسية للأنباء، قال فيه إنّ "كل هذه التصريحات، حتى الآن، مجانية، ولم تستند إلى أيّ دليل".
في الواقع، وكما يبدو، لم يعد مستبعَداً أن تطلق روسيا مناورتها (الغامضة حتى الآن) تجاه غزو أوكرانيا. لا نقول إنه غزو، بما للمعنى من كلمة تقليدية، بل سيكون عبارة عن عمل أمني – عسكري - سياسي مركّب، تختلط فيه أعمال المعارضة من داخل أوكرانيا، وخصوصاً في إقليم دونباس القريب من الروس، مع أعمال أمنية وتفجيرات غريبة وفعّالة، ويترافق مع طلبات قومية لساكني الإقليم، ولغيرهم من الأوكرانيين من أصول روسية، أو مِمَّن لديهم توجهات سياسية قريبة من الروس، من أجل مساعدتهم على مواجهة السلطة الأوكرانية، التي سوف تُتَّهَم (وهذا الأمر يحمل كثيراً من الصحة)، بأنها تستفيد من عناصر أمنية وعسكرية واستخبارية أميركية وأوروبية، على صورة مدرِّبين، كما يعمد الأميركيون عبر العالم، وخصوصاً في العراق مؤخراً، الأمر الذي سوف يدفع روسيا إلى تلبية المساعدة فوراً لهذه القوميات الروسية الجذور. وما كشفه موقع "ياهو نيوز" مؤخّراً، ومفاده أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ("سي آي أيه") تشرف على برنامج تدريب سري لنخبة من القوات الخاصة الأوكرانية، وأفراد استخبارات آخرين، منذ عام 2015، في مُنشَأة لم يُكشَف عنها في جنوبي الولايات المتحدة، يؤكد هذه المخاوف الروسية.