الوقائع على الأرض تفرض نفسها على سياسات الغرب وحلفائه في المنطقة
د. عدنان منصور
لم يأت فجأة التطوّر الحاصل في العلاقات السياسيّة الثنائيّة بين دول في المنطقة المشرقيّة، ومعها دول خارجية فاعلة، ومؤثرة على الأحداث الجارية فيها، والتطورات التي شهدتها بلدان منطقة غربي آسيا منذ عقد من الزمن وحتى الآن. إذ لم يكن التحوّل الجديد لهذه الدول في تعاطيها المستجدّ ليحصل، لولا أنها وجدت نفسها أن لا مفرّ من العودة قليلاً الى الوراء للوقوف على الفترة السابقة، ومعرفة مدى نجاحها وفشلها، ومن ثم إعادة تموضعها، وتقييم خططها، وأهدافها، وسلوكها، وأدائها، وسياساتها التي اتبعتها ونفذتها على الأرض، حيث كان حسابها على البيدر مختلفاً كلياً عن حسابات الحقل.
إنّ النظرة إلى الأمور والتطورات الحالية والأحداث الخطيرة
التي شهدتها شعوب المنطقة على مدى أكثر من عقد ولا تزال، وعانت منها الأمرّين، يحتّم على من أشعل الحرب الداخليّة في دولها، وزجّ نفسه فيها، إعادة النظر، إنْ لم يكن اليوم فغداً، إذ إنّ جميع المتورّطين في المؤامرة على الأنظمة الوطنية، دفع الثمن غالياً، باستثناء القوى الأجنبيّة المهيمنة، ذات النفوذ الواسع، التي تقود أوركسترا السياسات والخطط في المنطقة، حيث تخرج في كلّ مرة من المعادلة، بالمكاسب والأرباح، وتحقيق أهدافها في زعزعة كيانات الدول وإثارة الفتن، والاضطرابات، والقلاقل، وإشعال الحروب الأهليّة فيها، وتأليب مكوّنات الداخل على أخرى، بذريعة حرصها على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، لتكون بعد ذلك سوقاً كبيراً لها لبيع السلاح للمتقاتلين، يدرّ عليها من قبل مموّليهم عشرات المليارات من الدولارات.
هو واقع الحال المرّ الذي عرفته شعوبنا خلال السنوات العشر الماضية ولا تزال، بعد أن التهمت نيران الحروب الأهلية الكثير الكثير، وحصدت الأخضر واليابس، ولم تبق على شيء، رغم أنّ القوى المشعلة للحروب لم تحقق ما أرادته من أهداف استراتيجية لصالحها ولصالح حلفائها الداعمين لها. حروب عبثية بكلّ ما خلفته من دمار، ومآس، وويلات قسّمت شعوباً ومناطق، وغرست الأحقاد في النفوس، وأجّجت النعرات الطائفيّة، والقومية والدينية، وضربت في الصميم النسيج الوطني والاجتماعي لشعوبها. هذه الدول التي خطّطت وساهمت في تفجير المنطقة، تبحث اليوم عن طريق الخلاص، بعد أن غرقت في المستنقع، ظناً منها عند بداية إشعالها للحروب الداخليّة، أنها ستخرج منتصرة، من دون أن تدري أنّ القوى الغربية الراعية والمحرّضة لها، لا يناسبها مطلقاً أن تتوقف الحروب والصراعات الداخلية والإقليمية في منطقتنا، وتعمل على إطالة أمدها، حتى تستمرّ مبيعات سلاحه إليها، وبالتالي تقويض الاستقرار والأمن فيها. تقويض يبعدها عن التنمية ويعيق تطوّر بلدانها وتقدّم شعوبها.
هنا نتساءل: لمصلحة من كانت قرارات الجامعة العربية ضدّ سورية أعوام 2011 و 2012 و 2013 و 2014 والتي علقت مشاركة سورية في اجتماعات الجامعة، ودعمت الفصائل السورية المسلحة، وعشرات الآلاف من المرتزقة الإرهابيين القادمين من أنحاء العالم، ومطالبتها بتنحّي الرئيس السوري عن منصبه وتسليم السلطة لـ «المعارضة»؟! لمصلحة من كانت الحرب على سورية التي رسمتها الأيادي الدولية والإقليمية ليقول عنها في ما بعد، وبصراحة أحد ابرز الضالعين فيها، أننا «تهاوشنا على الطريدة، وطلب منا التدخل، وأنفقنا (حتى حينه) 137 مليار دولار على الحرب… وإننا دمّرنا سورية»؟! من طلب التدخل، وباسم من؟! ولصالح من؟! ولخدمة من؟! وبعد هذا، مَن يتحمّل مسؤولية نتائج الحرب والدمار الذي لحق بسورية؟!
لمصلحة مَن فتكت الفصائل الإرهابية على مدى سنوات بسورية والعراق، ولم ينجُ منها لبنان ومصر وليبيا وغيرها، حيث دمّرت المؤسسات، وقتلت الأبرياء، ونهبت المصانع والبيوت، وسبت النساء والأطفال، وهجرت السكان، وفجرت الآثار التاريخية والدينية، وانتهكت الحرمات، وكل ذلك، أمام عيون العالم، و«جامعة العرب» التي صمتت كصمت القبور، وكأن على رأسها الطير، لا حراك لها، ولا فعل، ولا قوة؟
لصالح مَن تمّ تزويد الفصائل الإرهابية بالمال والسلاح، ودعمها وتدريبهما والتخطيط لها؟! ولصالح مَن تدور الحرب الطاحنة في اليمن منذ أكثر من ستة أعوام بين الأشقاء، وإنفاق مئات المليارات عليها من الخزائن العربية؟! أليس الغرب ومصانعه العسكرية وشركاته المالية، هم المستفيدون أولاً وأخيراً من بيع السلاح واستمرار الحرب؟! وهل كان لواشنطن وحلفائها الغربيين مصلحة في إيقاف الحروب الداخليّة في منطقتنا المشرقية، في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها؟! ألم تعلُ الأصوات في أواخر شهر حزيران 2011، داخل الكونغرس الأميركي بعد مئة يوم من اندلاع الأحداث في سورية، عندما سلمت مطالعة من قبل المدير التنفيذي في «معهد واشنطن للسياسة في الشرق الأدنى» روبرت ساتلوف، الى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب في الكونغرس الأميركي، بناء على طلبها، تضمّنت «الخطوات القادمة: إيران وسورية»، وفيها تقول المطالعة بصراحة: «ينبغي ألا يكون هناك داعٍ للأسف أو التردّد في السعي للتغيير في سورية. إنّ مصالح أميركا في سورية واضحة. سيكون لأميركا فائدة كبيرة من سقوط نظام الأسد، ذلك أنّ أيّ نظام سيخلفه لن يتعهّد كنظام الأسد بتنفيذ مجموعة واسعة من السياسات الخطرة، في تسليح الميليشيات الإسلاميّة في لبنان والساحة الفلسطينيّة ودعمها، وتسهيل الهجمات على القوات الأميركيّة بواسطة المقاتلين الأجانب في العراق!». («لقد حان الوقت لاتخاذ الخطوات التي من شأنها تسريع زوال نظام الأسد وتوظيف الجهود بحكمة في إمكانية ظهور قادة يخلفون النظام القائم في سورية، يشاركون مصالحنا في الأمن والسلام الإقليميّين»!
أما بالنسبة لإيران، لم تتوقف واشنطن يوماً عن فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية والمصرفية على طهران، من أجل حصارها وزعزعة نظامها، وتطويقها، وخلخلة استقرارها، وتأليب الداخل عليها، لحملها على الرضوخ للإملاءات الأميركية، والكفّ عن دعمها للأنظمة الوطنية، وللمقاومات في المنطقة ضدّ الاحتلال الصهيوني، وقوات الاحتلال الأميركي والتركي في العراق وسورية. بعد عشر سنوات من الحروب الداخلية، كانت النتيجة التي لا يمكن لواشنطن وحلفائها تجاهلها وهي، أنّ إيران والعراق وسورية، والمقاومة في فلسطين ولبنان، صمدوا جميعاً، وأنّ الفصائل الإرهابية التي لعبت دور حصان طروادة لواشنطن وحلفائها في المنطقة اندحرت. صمود أجبر كلّ من تورّط في حروب المنطقة، ودفع الثمن غالياً، أن يعيد حساباته من جديد، بعد غرقه في مستنقع حروبه القذرة، فكان لا بدّ له، من الإقرار بفشله الذريع، وباستحالة أخذ المنطقة الى ما يريد ويتطلع إليه، وبالتالي، شعوره بضرورة وقف نزيف خزائنه المالية، وتجنّب التداعيات الخطيرة التي تزداد وتتفاقم مع الأيام.
يتحدّثون اليوم عن عودة سورية الى الجامعة العربية، وقد قلناها مراراً في السابق، ان ليست سورية هي التي ستعود الى الجامعة، وإنما الجامعة العربية وما ارتكبته من حماقة وجريمة بحق سورية وشعبها عندما اتخذت القرارات التعسّفية الظالمة ضدّها، وضربت العمل العربي المشترك في الصميم، هي التي ستعود الى سورية.
فما الذي حققته الجامعة العربية بعد عشر سنوات من الأحداث الدامية في سورية، وهل القرارات العشوائية المتخبّطة التي اتخذتها حيالها، أثبتت عن صدقيتها وجدارتها وثبات موقفها، وعزّزت العمل العربي المشترك، ووحدة الصف والهدف العربي؟! فبأيّ وجه ستطلّ الجامعة العربية على شعوب الأمة بعد أن كانت سبباً مباشراً ورئيساً في تدمير سورية، وتراها اليوم تتراجع أمام فشلها الكبير،
لتدير بوصلتها من جديد باتجاه سورية، بعد أن أدرك الجميع أنّ تعليق عضويتها كان حماقة كبيرة ارتكبتها الجامعة العربية، وقد تبيّن ذلك في ما بعد على الأرض، بالبرهان واليقين، من أنّ قرار الجامعة بتعليق عضوية سورية، كان تعليقاً للعمل العربي المشترك.
ها هي دمشق، صمدت وأفشلت السياسات التي استهدفتها، وإيران صمدت، وأصبحت أكثر قوة ومناعة رغم الحصار، وأثبتت للعالم كله أنها عصيّة على الابتزاز والعقوبات الشرسة، حيث لم تستطع واشنطن وحلفاؤها رغم كلّ السياسات التعسّفية، والقرارات المستبدّة التي اتخذتها، أن تمنع طهران من توسيع دائرة حضورها، ومروحتها السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة، لتصبح لاعباً رئيساً، فاعلاً ومؤثراً جداً في سياساتها وتطوّرات أوضاعها، وتشكل حاجزاً قوياً في وجه الكيان «الإسرائيلي»، والنفوذ الأميركي وهيمنته على المنطقة.
لا شك في أنّ الاتفاق الصيني الإيراني لمدة 25 عاماً، أثار حفيظة واشنطن وقلقها، لكون الاتفاق سيجعل من إيران بوابة عبور الصين الى منطقة غربي آسيا، ما سيشكل تحدياً كبيراً لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وتدفع بشهية بلدان المنطقة الى التوجه شرقاً والبحث عن أصدقاء وشركاء جدد. وهذا ما يزعج واشنطن ولا تقبل به بسهولة، مما يدفعها الى لملمة الصفوف، وإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، والبحث عن مخارج ملائمة، بدأت تظهر من خلال التواصل الذي حصل مؤخراً بين واشنطن وطهران بالواسطة، لإيجاد حلّ للاتفاق النووي الإيراني.
إنه من الأهمية بمكان، ومن أجل تحصين المنطقة من جديد، وتحقيق الأمن والاستقرار فيها، واستعادة الثقة المتبادلة بين دولها، أن تلتقي الرياض مع دمشق، وأيضاً تعود المياه الى مجاريها بين السعودية وإيران، فكلاهما يشكلان مرتكزاً قوياً، وأهمية بالغة لا يمكن تجاهلها، ورافعة قوية لشعوب المنطقة وأمنها واستقرارها وتطورها، ولا يجوز بالتالي التفريط بأيّ شكل من الأشكال بالتعاون والعمل المشترك بينهما الذي يصبّ في خدمة شعوب المنطقة، ويعزز ويصون الأمن القومي لبلدانها بعيداً عن تأثيرات وإملاءات دول الهيمنة والتسلط.
آن الأوان لدول المنطقة أن تأخذ العبرة مما جرى خلال السنوات العشر الأخيرة، وهي أنّ أمن المنطقة واستقرارها يحققه أبناؤها، ولا تحققه الأساطيل والقواعد العسكرية الأجنبية.
إنها فرصة للجميع، وكفى إراقة الدماء وإشعال الحروب العبثية، وإفقار الشعوب، والاستمرار في نزف خزائن دول منطقتنا، وإثارة الكراهية والأحقاد، وبث النعرات الطائفية التي لم تخدم إلا قوى الهيمنة والتسلط التي تتربّع على عرش خلافاتنا، وانقساماتنا.
أن تلتقي دمشق مع الرياض والإمارات، وقطر والقاهرة، وان تلتقي طهران مع الرياض، والقاهرة، والإمارات، والكويت، وأن تلتقي الرياض مع صنعاء وبيروت وبغداد وغزة، فهذا كله قمة الحكمة والعقل والمسؤولية الوطنية والقومية. كفى ما جرى خلال العقد الماضي، من ويلات ومآسٍ، كان المستفيد الأكبر منها الغرب والكيان الصهيوني، وكان الخاسر الأكبر دول المنطقة وشعوبها.
لقاء هذه الدول، والتعاون في ما بينها، وترميم علاقاتها الأخوية بعد قطيعة دامت لسنوات، يستطيع أن يغيّر وجه المنطقة، ويعزّز من وحدتها وحضورها ومكانتها، ودورها على الساحة الإقليمية والعالمية، وينعش مجدّداً روح الصداقة والأخوّة بين شعوبها، ويعجّل في تنميتها، وإعادة بنائها وتطوّرها ورفاهيتها مستقبلاً، بدلاً من أن تظلّ أسيرة للحروب المدمرة التي يطال لهيبها دول منطقتنا وشعوبها من دون استثناء، وتجرف في طريقها الأمن والاستقرار والأمل في التنمية، وتقوّض الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشيّة فيها.
إنها فرصة لتحكيم العقل، لا لتحكيم الغرائز والأحقاد وتصفية الحسابات. فكفى المنطقة شر القوى التي هيمنت منذ عقود على شعوبها، التي لم تحصد منها إلا المصائب والفتن والمؤامرات والاستغلال والنهب المنظم!