مأرب من قاعدة هجوم إلى مركز دفاع
ايهاب زكي
لم تتغير إستراتيجية العدوان في اليمن منذ انطلاقه قبل ست سنوات، وهذا لسببٍ بسيط وواضح، وهو أنها غير موجودة أصلاً، فالسعودية في المعادلة اليمنية إحدى الأدوات الأمريكية، وليست طرفًا أصيلًا، هي فقط وكيل شبه حصري عن بعض حكومة هادي. أمّا الإستراتيجية الأمريكية فهي تنحصر في إعادة تدوير الفشل، من خلال محاولات إعادة بث الروح في جثة السلوك "الأوبامي"، حيث شنّ الحروب من خلف الستار دون التورط المباشر، لتبدو كطرفٍ صالحٍ ليكون وسيطًا، بما يضمن لها تحقيق مصالحها مع جميع الأطراف وعلى كل الصُعد، وكذلك لتكون جلادًا في حال فشل أدواتها ليتحملوا كامل المسؤولية عن تبعات الفشل، وهذه قاعدة أمريكية، حيث الغنائم لها ولأدواتها المغارم، واليوم في اليمن هناك إصرار سعودي على عزف سيمفونية وحيدة، وهي أنّ "أنصار الله" فهموا الرسالة الأمريكية خطأً، حيث إنّهم اعتبروها ضوءًا أخضر للتصعيد، مع زعم أنّه "تصعيد إيراني" مفتعل للضغط في ملفها النووي، وهذا ما يتم تكراره إعلاميًا ورسميًا سعوديًا وعبر ما يسمى "الشرعية".
وهذه السمفونية نشازٌ بحت، وكأنّ حكومة صنعاء هي من تشن العدوان على آل سعود نيابة عن أمريكا وليس العكس، فيما المفترض أن تفهم السعودية الرسالة، فهي الأداة المستخدمة أمريكيًا، ورسالة رفع "أنصار الله" عن قوائم الإرهاب الأمريكية، وإن وضعتها واشنطن في الإطار الإنساني، فإنها تأتي في إطار ما تسميها الولايات المتحدة بسياسة حسن النوايا تجاه طهران، حيث هناك تعنت أمريكي لحشر ما تسميه بـ"النفوذ الإيراني" ضمن شروط العودة للاتفاق النووي، فهناك قناعة أمريكية راسخة بعد خبرةٍ طويلة في المفاوض الإيراني، بأنّ اتفاق 5+1 عام 2015، هو أفضل وآخر ما يمكن التوصل إليه مع طهران، وعليه يُعتبر الملف النووي باتفاقه هو نهاية المطاف بالنسبة لطهران على مستوى تقديم التنازلات. لذلك تعتبر الولايات المتحدة أنّ حشر ملفات إقليمية ساخنة في عملية التفاوض النووي، سبيل لتحقيق مكتسبات على هامش العودة للاتفاق النووي، وهذا ما يفسر الإصرار على الزّج باسم طهران في كل شاردةٍ وواردة في الملف اليمني وكل ملفات المنطقة، وهذا ما يسمى بإعادة تدوير الفشل.
ويتم اتخاذ معركة مأرب باعتبارها نموذجًا على التصعيد، مع أنّ مأرب هي الجبهة الأسخن منذ بدء العدوان على اليمن، حيث شكّلت مخزونًا للسلاح والمرتزقة، وانطلاقًا للعمليات ومحاولات اختراق خطوط الدفاع عن العاصمة صنعاء، كما أنّها المخزون النفطي الذي يوفر الأموال اللازمة لاستمرار العدوان برًا وبحرًا وجوًا، ولكن ما حدث هو تغيير في قواعد اللعبة، حيث تبدّل موقع مأرب من كونها منطلقًا للهجوم، أصبحت مركزًا للدفاع، وهو دفاعٌ ليس عن مجرد محافظة، بل هو دفاعٌ عن مشروعٍ أمريكي يتداعى، فاستعادة صنعاء لمحافظة مأرب، سيكون بمثابة استعادة دمشق لحلب، حيث انهيار المشروع بمخططاته الأصلية والاحتياطية، فتم اللجوء لمحاولات الضغط بوسائل أخرى، لتقليل حجم الخسائر الأمريكية و"الإسرائيلية" والتركية، لذلك فإنّ تحوّل مأرب من قاعدة هجوم إلى مركز دفاع، بكل تداعيات هذا التحوّل، هو ما جعل صراخ الأطراف المعتدية يعلو، وهو صراخٌ كسيناريو يتم تكراره، فالمؤلف واحد، رأسه في واشنطن وذيله يتمدد في جغرافيا منطقتنا. في سوريا مثلاً كان يبدأ الصراخ كانتصاراتٍ يحققها الإرهاب على الجيش السوري، في المرحلة التالية، يتم تطعيم صراخ الانتصارات بلمحةٍ انسانية، حيث إنّ المعارك "تطحن المدنيين وتزيد في أعداد اللاجئين"، وفي المرحلة الأخيرة أي قبل مرحلة ركوب الباصات الخضراء، يتم التركيز على الصراخ الإنساني حصرًا، وفي مأرب يتم تكرار ذات السيناريو، وقد وصلوا إلى المرحلة الثانية، حيث تخطوا مرحلة الانتصارات البحتة، إلى مرحلة الانتصارات المطعّمة باللمسة الإنسانية، وهي مرحلة تمهيدية قطعًا لمرحلة الصراخ الإنساني الصرف.
على الولايات المتحدة أن تستعد لمرحلة ما بعد استعادة صنعاء لمأرب، حيث لن يُغير هذا أي شيء في الموقف الإيراني لناحية الاتفاق النووي، وستبقى الشروط الإيرانية هي ذاتها قبل مأرب وبعدها، ولكن ما سيتغيّر هو حالة أدواتها في العدوان على اليمن، حيث ستصبح ما تسمى بـ"الشرعية" عالة بالكلية على الخزينة السعودية الإماراتية، ويصبح الخزان البشري في المناطق التي تسيطر عليها، وقد يصل إلى ما دون العشرين في المئة من تعداد الشعب اليمني، وستتآكل مقومات شرعيتها المتهالكة أصلاً، وسيصبح من المتعذر على واشنطن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فاستعادة مأرب ستتضاعف قدرة الجيش اليمني واللجان الشعبية على استعادة كل الجغرافيا اليمنية، وسيكون التفاوض إن قررت واشنطن عقده، سيكون على هذا الهدف بالنسبة لحكومة صنعاء. فالوقت لا يعمل في صالح أطراف العدوان بل في صالح صنعاء، وما يؤشر على الوصول إلى هذه المرحلة، هو تكلس خطاب دول العدوان وأطرافه بما لا يتلاءم مع الوقائع الميدانية، حيث القرار الأممي واتفاق الرياض ومخرجات الحوار الوطني، فلو أنّ من يسمى بـ"رئيس الشرعية" تخلص من قرص التسجيل الذي زرعوه على لسانه، ليكرر مفردة إيران عشرات المرات في كل تصريحٍ أو بيان، لأدرك الغيبوبة التي عاش فيها منذ ست سنوات ولا يزال، ولأدرك أنّ أفضل ما يمكن فعله هو الذهاب إلى صنعاء مباشرةً لتقديم استقالته هناك، ويقضى ما تبقى له هناك كرئيسٍ سابق فرّ وضلّ فعاد.