حرب العملات والصراع على قيادة الاقتصاد العالمي
حيدر آل حيدر الاجودي
أصبحت الحروب العسكرية موضة قديمة، فقد وصلت الأنظمة العالمية إلى أبعد من ذلك، فأصبحت الحروب الآن تكتيكية تعتمد على ضرب المصالح بأستخدام وسائل الضغط، دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ففي هذا الوقت بالذات يعتبر من التهور أن تعلن دولة ما حربا عسكرية على دولة أخرى معادية لها، مع وجود العتاد العسكري المهيب لكلا الطرفين سواء امتلاكا بالمباشر أو عن طريق الشراء لسهولة الحصول عليه، ما يكفي للحصول على القوة العسكرية التي تتمكن من الرد على الهجوم المعادي بنفس القوة أو أكثر لكلا الطرفين المتخاصمين والذي يؤدي إلى تضرر كلا الطرفين بالضرر العسكري الذي يعتبر من أكثر الأضرار تكلفة وتحتاج لسنوات حتى تستطيع النهوض مرة أخرى، فليس من السهل أن تعيد بناء ما تم هدمه على كافة الأصعدة العسكرية والاقتصادية والثقافية..
اليوم نحن مع نوع جديد من الحروب تسمى بـ(حرب العملات)، حرب هدفها الإطاحة بالدولار الأميركي المهيمن، وذلك بقيادة الصين وروسيا وبعض الدول الأخرى، فقد أصبح التلاعب بالعملات سلاحا فعالا تستخدمه الدول في الحروب الاقتصادية والتجارية وحتى السياسية، وهذا ما فعلته الصين منذ التسعينيات ودأبت على استخدامه الولايات المتحدة منذ الأربعينيات للتحكم بالتجارة والتبادلات العالمية، فهل حانت نهاية الدولار، وهل سيكون لذلك تأثير على الاقتصاد العالمي؟.
فمنذ زمن تمارس الولايات المتحدة الأميركية سياسة العقوبات الاقتصادية في وجه الكثير من الدول التي تخالف سياستها أو التي تشكل تهديدا لها، معتمدة في ذلك على هيمنتها الطاغية لعملتها في أغلب بلدان العالم، حيث تواصل استخدام الدولار كسوط لجلد ظهر كل من يحاول تهديد عرشها، هذا ما جعل الدول المتضررة من ذلك تبحث عن رد فعل حقيقي ينال من واشنطن للحد من هيمنة الدولار على مقدرات التجارة العالمية الذي بدأ منذ بداية الحرب العالمية الثانية.
ومنذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية استطاع أن يحقق نجاحا باهرا وقدما واضحا في توسيع دائرة الأعداء والرافضين للسياسة الأميركية عموما وعلى المستوى الاقتصادي بشكل خاص، فبعد أن كانت روسيا الاتحادية وكوريا الشمالية هما أبرز الأعداء، باتت الصين على رأس القائمة في ظل الحرب التجارية التي شنها ترامب على بكين منذ توليه الرئاسة، ثم دخلت تركيا وروسيا على خط الصراع أيضا، ولا ننسى بالطبع إيران عقب عصف ترامب للاتفاق النووي التاريخي الذي كان قد اعتمده باراك أوباما خلال توليه رئاسة الإدارة الأميركية، ولعل أبرز سلاح تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة هذه البلدان وغيرها هو الهيمنة الواضحة بشكل جلي للدولار على الاقتصاد العالمي -وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها-.
إذ يمكن القول، بأن الدولار يسيطر –تقريبا- على أغلب المعاملات التجارية في العالم، ويجري تسعير معظم البضائع بالدولار وفي مقدمتها النفط وكذلك الأسهم، وهو يمثل نحو 85% من العملات المتداولة في التجارة الدولية، وقد وصلت الاحتياطات المالية المقومة بالدولار إلى أكثر من 60% في العالم مقابل عملة اليورو المنافس الأبرز للدولار، كما أن حركة سعر الدولار صعودا وهبوطا من الممكن أن تحدث هزة اقتصادية عالمية، بل أن اتجاه الأموال حول العالم حاليا مرتبطا ارتباطا مباشرا بقيمة الدولار وهو الأمر الذي ظهر جليا عندما بدأ البنك المركزي الأميركي في تحريك سعر الفائدة على الدولار منذ بداية السنة الماضية (2019)، ولكن الضغط المستمر للإدارة الأميركية واستمرارها في فرض العقوبات الاقتصادية القاسية على دول عديدة لم يكن ليمر مرور الكرام وكما يقولون "الضغط يولد الانفجار” وصبر تلك الدول بدأ ينفذ، فبدأت بالبحث عن خطط للتخلص من سيطرة الدولار الأميركي، فكانت أول خطوة هي دعوة رؤوساء الدول المتضررة من العقوبات الاقتصادية الأميركية كروسيا وتركيا وإيران إلى استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري فيما بينهم بدلا عن الدولار المهيمن، كما دعا الرئيس الصيني حليفه الروسي لذلك أيضا، من أجل مواجهة ما وصفه الرئيس الصيني بعدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي ومحاولة عرقلة تطلعات الشعوب المشروعة في ممارسة حياتهم بشكل أفضل.
وفي الحقيقة، استطاعت روسيا أن تحقق نجاحا ملفتا في ذلك، فمنذ عام 2018 بدأ الدب الروسي بتنفيذ إستراتيجية طويلة الأمد وهي إلغاء الدولار في المعاملات المحلية والتجارة الدولية للتحايل على العقوبات الأميركية، ومنذ فترة من 2013 إلى 2018 استطاع البنك المركزي الروسي أن يخفض حصة الدولار من احتياطات النقد الأجنبي من أكثر من 40% إلى 24%، ومنذ عام 2018 إلى الوقت الحالي انخفضت انحيازات البنك من الديون الأميركية من 100 مليار دولار إلى أقل من 10 مليار دولار، والشركات الروسية الضخمة كشركات النفط والغاز بدأت تستغني عن الدولار وتعتمد على اليورو والعملة المحلية الروبل الروسي في تعاملاتها.
أما بالنسبة إلى الصين، التي تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم تجنبت استخدام الدولار الذي بات إستراتيجية لا رجعة فيها، فالصين تخوض حربا تجارية مع أميركا منذ فترة ليست بعيدة، حيث كانت الإدارة الأميركية تريد فرض رسوم كمركية تصل إلى 25% على ما قيمته 300 مليار دولار من وارداتها من الصين، ومن المؤكد أن صبر التنين الصيني قد نفذ خاصة عندما وضعت الإدارة الأميركية مجموعة هواوي الصينية العملاقة على القوائم السوداء في محاولة لخنقها وإخراجها من الأسواق العالمية، والصين الآن تحاول أن تجعل عملتها اليوان هي العملة المعتمدة عالميا، لكن بدون شك لن تستطيع تحقيق أهدافها بين ليلة وضحاها، فالأمر يحتاج إلى عمل تدريجي، وكمعلومة قيمة الصادرات الصينية الموجهة إلى أميركا فاقت 400 مليار دولار السنة الماضية، فليس من الحكمة أن يسعى أحدهم إلى تدمير أكبر عميل له، ومن ناحية أخرى بعض الدول قد لا تكون قادرة على الحفاظ على قيمة عملتها ثابتة، خصوصا التي تعتمد على الصادرات النفطية والغازية لتحديد سعر عملتها كما هو الحال لروسيا، وهذا ما رأيناه مؤخرا بعدما أعلنت السلطات السعودية الحرب التجارية على روسيا وذلك بإغراق الأسواق بالنفط، حيث تراجعت قيمة الروبل الروسي بـ 7% عن القيمة الأصلية.
ولكن السؤال أين الدول العربية من هذه الحرب؟، حيث أكد خبراء اقتصاديين أن الدول العربية هي الخاسر الرئيس في حرب العملات التي تدور رحاها بين النظام الشيوعي في الصين وبين النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأميركية، مشيرين إلى أن أضرار هذه الحرب تأتي مباشرة على ميزان مدفوعاتها وخاصة الميزان التجاري، فالدول العربية تتبع سياسة ربط عملتها بالدولار سواء بشكل رسمي معلن أو بشكل ضمني دون الإعلان عن ذلك، وانخفاض قيمة الدولار في إطار حرب العملات سيضر بميزان مدفوعات الدول العربية وخاصة النفطية التي تقوم بتصدير النفط الخام للولايات المتحدة وغيرها بالدولار، ثم تقوم باستيراد متطلباتها من السلع الضرورية بالعملات الأخرى خاصة اليورو، فبكل بساطة ستضطر هذه الدول للبيع بثمن منخفض والشراء بثمن مرتفع مما يشكل عائقا كبيرا في اقتصادها وهذا ينطبق على كل الدول النامية.