kayhan.ir

رمز الخبر: 99788
تأريخ النشر : 2019August24 - 19:52

ضرورة تقويض نظام الهيمنة العالمية للدولار

جورج حداد

انطلق نظام الهيمنة العالمية للدولار منذ انعقاد مؤتمر "بريتون وودز" في الولايات المتحدة الاميركية في اواخر الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك التاريخ تتصرف مختلف الادارات الاميركية، "الدمقراطية" و"الجمهورية"، مع دول العالم بعقلية الغانغستر وزعماء المافيات الاميركية.

واليوم تلعب المالية الدولية والتوظيفات الاجنبية دورا رئيسيا في جميع حقول سياسة القوة العالمية. وفي هذا السياق تضطلع الاحتياطات النقدية الدولية باهمية خاصة جدا. ومنذ وقت طويل وغالبية البنوك المركزية لمختلف الدول تحتفظ باحتياطاتها من الذهب والعملات الاجنبية في الولايات المتحدة وتابعها بريطانيا.

ومنذ سنة 1945 وبنك "الفيديرال ريزرف" الاميركي يحتفظ في دهاليزه بالذهب الخاص بالعديد من البنوك المركزية الاجنبية لانه كان بعيدا عن مخاطر الحرب. اما المجمّع الذهبي الذي كونته بريطانيا في الستينات من القرن الماضي فكان يضم الذهب الخاص لعدد من البنوك الاميركية والاوروبية بالاضافة الى الاحتياطي الذهبي لبريطانيا ذاتها. وبهذه الطريقة كان بامكان الخزانة الاميركية ان تدعم سعر صرف الدولار (البدون تغطية ذهبية اميركية خاصة) بالمبلغ المعلن وهو 35 دولارا للاونصة الذهبية، هذا بالاضافة الى التغطية النفطية لهذا السعر الاعتباطي، بفعل السيطرة الاميركية على نفط السعودية وغيرها من دول الخليج الفارسي. وكان يتم الاحتفاظ بالاحتياطات الاجنبية بصيغة سندات للدولة الاميركية التي كانت تباع وتشترى في "بورصة نيويورك" بهدف تأمين الاستقرار في اسعار صرف شتى العملات. وبهذه الطريقة فإن القروض والاحتياطات الخاصة بالعديد من الدول المودعة في اميركا كانت تقيّم بالدولار، مما يسمح لبنوك نيويورك ان تعزز دورها بشكل خاص بوصفها وكلاء دفع.

وربما يكفي ان نقدم الامثلة التالية عن طريقة التعامل الفظ والوقح للادارات الاميركية مع مختلف الدول في مختلف القارات:

ـ1ـ من المعبر تماما التوقف عند المثال الايراني: كانت ايران الشاه تابعة تماما للغرب. خصوصا وان اميركا هي التي اعادت الشاه الى العرش بعد الانقلاب الممول من قبلها ضد محمد مصدق الذي حاول تأميم شركة Anglo-Iranian Oil التي تسمى اليوم British Petroleum.

وبعد انتصار الثورة الاسلامية واسقاط الشاه، طلبت ايران من وكيل الدفع الخاص بها حينذاك وهو Chase Manhattan bank ان تستخدم ودائعها. ولكن بطلب من الحكومة الاميركية رفض البنك المذكور ان يلبي طلب الحكومة الشرعية الايرانية. وبعد وقت قصير اعلنت المحاكم الاميركية ان ايران هي في حالة عجز عن الدفع، وقامت بتجميد جميع الاصول الرأسمالية الايرانية في اميركا وفي اي مكان آخر. وكان هذا يعني عمليا تحويل المؤسسات المالية الدولية الى دوائر خاضعة لوزارة الخارجية ووزارة الدفاع الاميركيتين.

ومنذ ذلك الحين بدأت العديد من الدول تفكر هل يمكنها ان تواصل الاحتفاظ باحتياطاتها الذهبية في اميركا، وتغامر باحتمال مصادرتها، اذا قررت واشنطن ان ايا من الحكومات الشرعية لتلك الدول هي "معادية للسياسة الاميركية".

ـ2ـ وفي هذه الوضعية للنظام المالي العالمي الذي تتحكم به اميركا، وبعد اربعة عقود، قررت المانيا (الحليفة لاميركا) في السنة الماضية 2018 ان تطلب استعادة جزء من احتياطها الذهبي في اميركا. وكانت ردة الفعل الاميركية على الطلب الالماني سلبية جدا. وقد تظاهر الموظفون الاميركيون بانهم اصيبوا بالصدمة من هذه "الاهانة" لاميركا، ولمحوا انهم يمكن ان يفعلوا مع المانيا ما فعلوه مع ايران فيما مضى. وفي نهاية المطاف اضطرت المانيا ان تؤجل طلب استعادة جزء من احتياطها الذهبي لدى اميركا.

ـ3ـ وتقدم فنزويلا الان نموذجا فظا جديدا للنظام المالي العالمي الذي تستغله الولايات المتحدة اسوأ استغلال لفرض سياستها المعادية لاي بلد لا ترضى عن حكومته. فقد كانت الحكومة الاميركية واثقة من ان الجبهة الموالية لها في فنزويلا ستستطيع كسب الانتخابات الرئاسية الفنزويلية في ايار 2018 وازاحة نيكولاس مادورو المعادي لاميركا عن الرئاسة بطريقة "دمقراطية". ولكن الانتخابات اسفرت عن فوز نيكولاس مادورو.

وحينذاك اعلنت المعارضة بايعاز من الدوائر الاميركية عن بطلان الانتخابات، وبدأت الحكومة الاميركية بفرض الحصار والعقوبات الاقتصادية الشديدة ضد الدولة الفنزويلية مما تسبب بازمة اقتصادية خانقة في البلاد. وتبدت الازمة بشكل خاص في نقص وفقدان الكثير من المواد الغذائية المستوردة. وانبرت آلة البروباغندا الاميركية "تتهم الحكومة الفنزويلية وسياستها الاشتراكية" بالتسبب في الازمة وتطرح ضرورة ازاحة مادورو عن السلطة والمجيء بالمعارضة الموالية لاميركا. ولاجل التخفيف من وطأة الازمة الغذائية قررت الحكومة الفنزويلية الشرعية في كانون الاول 2018 ان تطلب من البنك البريطاني استعادة قسم من الاحتياطي الذهبي لفينزويلا المودع لديه والبالغ 11 مليار دولار، لاجل استيراد المواد الغذائية الضرورية. ولكن البنك البريطاني رفض تلبية الطلب الفنزويلي تلبية لتوجيهات جون بولتون مستشار الامن القومي الاميركي ومايك بومبيو وزير الخارجية الاميركية، كما تؤكد وكالة Bloomberg الاميركية ذاتها. ويضيف تقرير وكالة Bloomberg ان البنك البريطاني اجاب ممثلي البنك المركزي الفنزويلي، بكل بساطة، "بأن لا يعاودوا الاتصال به لانه لن يرد عليهم!".

وفي الوقت ذاته كان الموظفون الاميركيون يحاولون تحويل الاصول العائدة لفنزويلا في البنوك الاميركية، والبالغة قيمتها 11.2 مليار دولار، الى زعيم المعارضة الفنزويلية خوان غوايدو لرفع حظوظه للسيطرة على الحكم في البلاد.

وبلغ السلوك الاميركي قمة الفظاظة حينما انبرت آلة البروباغندا الاميركية لتتهم مساعي الحكومة الفنزويلية لانفاق جزء من احتياطات البلاد لاجل شراء المواد الغذائية والتخفيف من الازمة المعيشية بأنه "سرقة(!)" وانه تعد على "آلية العمل الدبلوماسي" لاميركا.

والان اذا كان هناك دولة مكروهة من قبل اميركا اكثر من فنزويلا فهي ايران. وقد عمدت ادارة ترامب الى الانسحاب من الاتفاقية النووية مع ايران التي سبق لادارة باراك اوباما ان وقعتها مع ايران بالاضافة الى الدول الاوروبية وروسيا والصين. وقد ادى ذلك الى تهديد الدول الاوروبية ذاتها بفرض العقوبات الاميركية عليها اذا لم تقم هي ايضا بخرق الاتفاق الدولي مع ايران، مما يتنافى مع جميع القوانين والاعراف الدولية. وهذه التهديدات الاميركية بالاضافة الى اعتراضات اميركا على استيراد الغاز الروسي الارخص من الغاز الصخري المسال الذي تريد اميركا فرضه على اوروبا بالرغم من عدم تجهيز المرافئ الاوروبية بمحطات التفريغ والتوزيع الكافية للحاجيات الاوروبية، كل ذلك يدفع المانيا وغيرها من الدول الاوروبية الى التفتيش عن طرق للدفاع عن مصالحها ضد التهديدات التي يتيحها النظام المالي الدولي لاميركا.

ان التهديدات الامبريالية الاميركية ليس لها فقط الوجه الحربي. وتلجأ اميركا الى الحرب الاقتصادية بشكل اكثر عدوانية من اي وقت ماضي، مستفيدة من طبيعة نظام الهيمنة العالمية للدولار الذي دشنته اتفاقية مؤتمر بريتون وودز في اواخر الحرب العالمية الثانية والذي لا يزال ساري المفعول الى اليوم. وفي هذا السياق تلجأ اميركا ايضا الى الحرب الالكترونية التي من شأنها تخريب اقتصاد اي بلد "غير مرضي عنه". علما ان التحويلات المالية الالكترونية الرئيسية تتم في اطار نظام التحويل المالي العالمي المسمى (SWIFT)، الذي هو تحت الهيمنة الاميركية ايضا.

ومن المعلومم ان روسيا والصين شرعتا في القيام بخطوات عملية لايجاد نظام تحويلات عالمية بديلا عن نظام (SWIFT). كما ان الدول الاوروبية بدأت تبحث عن سبل للتخلص من التهديدات الاميركية التي يمثلها النظام المالي الدولي الحالي الخاضع للادارة الاميركية. وقد كونت المانيا وفرنسا وحتى الكلب الاميركي بريطانيا نظاما ماليا التفافيا للتجارة مع ايران يسمى INSTEX.

هذا التوجه الاستقلالي عن النظام المالي الخاضع لاميركا سيشتد ويتوسع اكثر واكثر وسيؤدي حتما في نهاية المطاف الى انهيار الهيمنة العالمية للدولار، وهو ما اصبح ضرورة تاريخية لمصلحة جميع دول وشعوب العالم.