بعد فشل النظام العالمي الاميركي الجديد... أوروبا الى أين؟
جورج حداد
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والحرب الأميركية ضد صدام حسين وإخراجه من الكويت، في أوائل تسعينات القرن الماضي، أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب عن قيام "النظام العالمي الجديد" بزعامة القطب الاميركي الأوحد، وهي نسخة معدلة لفكرة تعود أصلا الى هتلر الذي رفع شعارين متلازمين هما "النظام العالمي الجديد" و"المانيا فوق الجميع".
ولاحقا شنت أميركا حروبها المباشرة والهجينة، ونظمت الثورة الملونة في جورجيا وأوكرانيا، والربيع العربي المشؤوم، وجددت الحرب الباردة وسعّرت العداء ضد روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية وفنزويلا، انطلاقا من استراتيجية "النظام العالمي الجديد" و"اميركا دركي العالم".
ولكن لكي تنجح هذه الاستراتيجية، في وجه دول عملاقة، قوية وصعبة المراس كروسيا والصين وايران، لا يكفي تأمين خضوع وخنوع دول مشيخات النفط العربية في الخليج الفارسي، خصوصاً بعد انخفاض دور هذه الدول في سوق الطاقة العالمي، وهو ما يجعل قيمتها الاستراتيجية تقارب الصفر وتعجز في أربع سنوات عن أن تنتصر على ثوار اليمن الفقراء والجائعين، رغم كل الدعم العسكري الذي تحصل عليه من أميركا.
وإن دولا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين ودول الهند الصينية، تمثل عبئاً على أميركا التي تقوم بحمايتها من الصين وكوريا الشمالية وفيتنام. وبدون الحماية الاميركية فإن تلك الدول تسقط بالضربة القاضية في الشوط الأول من أي نزاع مفترض.
ومن الطبيعي ان تكون أوروبا بيضة القبان في تكريس النظام العالمي الجديد لاميركا، وهي (أوروبا باستثناء روسيا) تعد أكثر من 600 مليون نسمة، ولها اقتصادات متطورة ولا سيما تكنولوجياً، كما لها حضور عسكري وازن، وتمتلك تاريخا سياسيا وحضاريا عريقا.
لكن أوروبا التي لا تزال تحتاج الى الحماية الاميركية، خذلت استراتيجية النظام العالمي الجديد لاميركا، ولم تجر سفنها كما تشتهي الأهواء الأميركية. وظهر ذلك في اتخاذ اجراءات بنيوية "استقلالية" عديدة لعل أهمها اطلاق اليورو وانشاء منطقة اليورو للابتعاد نسبيا عن هيمنة الدولار الاميركي. ومؤخراً، ظهر التباين الاميركي ـ الاوروبي بشكل فاضح جداً في امتناع الدول الاوروبية الكبرى عن اللحاق بأميركا والخروج من الاتفاقية النووية مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، وفي التحايل الاوروبي للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الاميركية ضد ايران وروسيا والصين وحتى كوريا الشمالية، وفي اصرار مختلف الدول الاوروبية على استيراد الغاز الروسي بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل اميركا. كما أن الدول الاوروبية أبدت امتعاضها من خروج أميركا من اتفاقية منع الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى. ومن المشكوك به أن ترضى أي دولة اوروبية بأن تنشر اميركا مثل هذه الصواريخ على أراضيها، لأن روسيا تقف بالمرصاد وهي لن تسامح أبداً وستسحق سحقاً أي بلد يهدد أمنها القومي بنشر الصواريخ الاميركية على أراضيه.
في ميونيخ عاصمة بافاريا بالمانيا، عقد "ملتقى ميونيخ" السنوي للأمن الدولي. ويحضر هذا الملتقى السنوي عشرات القادة والعسكريين والخبراء الدوليين، للبحث في قضايا الأمن الدولي. وسيحضره مايك بنس نائب الرئيس الاميركي.
وقد أصدر المشرفون على الملتقى تقريرا تحضيريا بعنوان "الغموض الكبير: من يلملم الشظايا؟". وبحسب "رويترز" فإن التقرير يقول ان المرحلة الجديدة من المزاحمة بين القوى الدولية العظمى كالصين وروسيا واميركا تضع العالم أمام مستقبل مجهول وعدائي.
وجاء في التقرير أن النظام العالمي القديم قد انهار، وأن النظام العالمي الجديد يتشكل على خلفية المزاحمة بين أميركا وروسيا والصين. ويبحث التقرير في التهديدات الاساسية والفراغ في القيادة. ويقول إن الالمان يخشون من استقواء أميركا أكثر مما يخشون روسيا.
ويخصص التقرير ذو المائة صفحة القسم الأكبر منه لبحث القضايا التالية: توتر العلاقات بين الغرب وروسيا، السياسة الخارجية الجديدة لأميركا في عهد ترامب، بما في ذلك النزاع بينها وبين الصين، ومكان أوروبا من كل ذلك.
إن العودة الى عهد الدول العظمى المتفردة تمثل التحدي الأكبر للنظام العالمي الليبرالي، دافعة الى الخلف خطر الارهاب الذي ساد في العقدين الأخيرين.
ولكن اذا كانت الصين تمثل تحديا لأميركا في الأمد البعيد فإن روسيا تقف في المواجهة الان.
وفي الجدال حول اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى يقول التقرير إن الموقف الروسي هو "اكثر مرونة" ويذكر حرفيا "يبدو ان روسيا تعتمد على أن الناتو لن ينجح في الاتفاق على نشر صوارخ أميركية جديدة في اوروبا".
ويتوقف التقرير عند تصريحات الرئيس دونالد ترامب بأن اميركا لا ترغب أن تضطلع بعد الآن بدور "الدركي العالمي".
وعلى خلفية خروج الكثير من العناصر المجربة والمعتدلة (كوزير الحرب السابق ماتيس) من ادارة ترامب، يتوقع التقرير حدوث "قلاقل كبيرة" في أميركا في النصف الثاني من ولاية ترامب. وهو يدعو أصدقاء اميركا "للتعويض عن غياب قائد عالمي مستقر بشخص اميركا".
الا أن التقرير يؤكد أن الاتحاد الاوروبي "مهيأ بشكل سيئ جداً لاستقبال العصر الجديد من المنافسة بين الدول العظمى". وفي الوقت الراهن يقوم الاتحاد الاوروبي بخطواته الخجولة الأولى "للانفصال" عن أميركا.
ويخلص التقرير في جزئه الرئيسي الى الاستنتاج أن "مرحلة التفاؤل التي أعقبت نهاية الحرب الباردة قد انتهت".
مما تقدم يبرز السؤال الكبير التالي: بعد فشل النظام العالمي الجديد لاميركا، اوروبا إلى أين؟!
يمكن الجواب كما يلي: إن المرحلة القادمة لن تكون مرحلة تقارب، بل على العكس ستكون مرحلة الابتعاد والخلافات والتناقضات وحتى النزاعات الاوروبية ـ الاميركية، وذلك على خلفية الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في اوروبا ذاتها، كما في اميركا!