هل ستنهار روسيا إذا انهارت المعاهدات النووية وعاد سباق التسلح؟
عبد الباري عطوان
إذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيدخل التاريخ، فإنه لن يدخله من بوابة الفضائح الجنسية فقط، وإنما من كونه رئيساً أميركيا اتسم عهده بأمرين رئيسيين أولهما: المبالغة في فرض الحصارات والعقوبات الاقتصادية، وثانيهما: نقض المعاهدات وبما يؤدي إلى تهديد أمن العالم واستقراره، وإعادة الحرب الباردة، وبصورة أكثر شراسة، وإعادة إطلاق سباق تسلح نووي، ولهذا ليس غريباً أن يوصف بأنه الزعيم الأميركي الأقل شعبية داخل الولايات المتحدة وخارجها لدفعه العالم إلى حافة الهاوية، إن لم يكن الهاوية نفسها.
فرض الحصارات والعقوبات الاقتصادية على إيران وروسيا وفنزويلا وسورية وباكستان (جزئيا)، وإعلان حرب تجارية على الصين، من الأمور المعروفة التي لا تحتاج إلى شروحات، ولكن الخطر الحقيقي الذي بات يقلق الخبراء الاستراتيجيين، ودول القارة الأوروبية هو قرار الرئيس ترامب الذي صدر ليلة الجمعة الماضية وأعلن فيه الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى التي جرى توقيعها عام 1987 بين الرئيسين الأميركي رونالد ريغان والروسي ميخائيل غورباتشوف.
الرد الروسي جاء سريعاً وبعد 24 ساعة، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين، وبعد اجتماعه مع وزير خارجيته سيرغي لافروف، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، يوم السبت، أي بعد يوم من القرار الأميركي، وتمثل في إعلان الانسحاب الفوري من المعاهدة المذكورة وتحميل الإدارة الأميركية كل ما يترتب على ذلك من نتائج بما في ذلك إطلاق رصاصة البدء في سباق تسلح نووي غير محدود.
الأكثر من ذلك أن الرئيس بوتين أعطى الضوء الأخضر فوراً للبدء بإنتاج صاروخ متوسط المدى أسرع من الصوت وتخصيص ميزانية أكبر للأبحاث العسكرية لإنتاج المزيد من الأسلحة الحديثة المتطورة.
كان لافتاً "غمز" الرئيس بوتين في قناة الرئيس ترامب بطريقة تنطوي على الكثير من الدهاء عندما قال "سننتظر إلى حين أن "ينضج" شركاؤنا بما يكفي لإجراء حوار متساو وذي مغزى بشأن هذا الموضوع المهم" مما يعني أن الرئيس الأميركي في نظر نظيره الروسي يتسم بعدم النضج والتهور، وهذه إهانة غير مسبوقة لرئيس تعهد بإعادة العظمة إلى أميركا.
تقويض معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة (مداها من 500 إلى 5500 كيلومتر) ربما يكون مقدمة لإنهاء الالتزام بمعاهدة "ستارت" حول خفض الترسانات النووية الأكثر خطورة التي ستنتهي في شباط (فبراير) عام 2021، أي بعد عامين بالتمام والكمال، مما يعني دخول العالم في فوضى نووية إذا لم يتم الاتفاق على تمديدها، وهذا التمديد بات موضع شكوك.
ما زالت المبررات التي أوردها الرئيس ترامب للانسحاب من المعاهدة المذكورة، أي خرق موسكو لها غير مقنعة، وهناك اعتقاد بأن السبب الحقيقي هو إغراق روسيا في سباق تسلح مكلف، يؤدي إلى إنهاكها اقتصاديا، تمهيداً لانهيارها، تماماً مثلما حصل للاتحاد السوفييتي بعد حرب النجوم.
الجهة الأكثر قلقاً من هذا الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ المتوسطة هي القارة الأوروبية، التي لم تفق بعد من صفعة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وتبعاته، وعبرت السيدة فيديريكا موغيريني، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي عن هذا القلق بقولها "لا نريد أن تتحول قارتنا إلى ميدان مواجهة روسية أميركية"، وقد شاركتها القلق نفسه السيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، التي اتهمت إدارة ترامب بأنها "تخاطر بسباق تسلح وتقوض الأمن والاستقرار الدوليين".
سياسة الرئيس ترامب "أميركا أولاً" قد تجعلها "أميركا آخراً"، لما تتسم به من تهور وعدم نضج، لأنها جعلت الولايات المتحدة تخسر أقرب حلفائها، أي الاتحاد الأوروبي، وتواجه القوتين العظميين (الصين وروسيا) وتحشدها ضدها، وربما تنحصر مكاسبها في "إسرائيل" وبعض الدول المارقة الأخرى إلى جانب دول صغيرة لا يمكن رؤيتها على الخريطة ألا "بمكبر" مثل ماكرونيزيا.
الإنفاق الصيني المتزايد في مجال الأسلحة الذي يرتكز على أرضية اقتصادية عملاقة لتوسيع مجالات النفوذ ليس في شرق آسيا، وإنما في إفريقيا والشرق الأوسط أيضاً، هو التهديد الاستراتيجي المتزايد للولايات المتحدة، وإذا كان رئيس كوريا الشمالية بات يشكل معضلة وتحدياً صعباً لترامب وإدارته فكيف سيكون الحال مع الرئيس الصيني الطموح شي جين بينغ؟
روسيا بوتين غير اتحاد سوفييتي غورباتشوف الضعيف المهزوم الراكع أمام أميركا والغرب عموماً، ولهذا لا نعتقد بأن سباق التسلح في حال اشتعال فتيل حربه، لن يؤدي إلى انهيار روسيا الجديدة المتعافية التي استوعبت وتعلمت من أخطاء سابقتها، وباتت أكثر شباباً وعنفواناً وإنما الولايات المتحدة الأميركية الكهلة، خاصة إذا فاز الرئيس ترامب بولاية ثانية.. والله أعلم.