سوريا هي سوريا.. من قبل ومن بعد
لؤي حسن
سوريا تسقط طائرة إسرائيلية في أمر غير مسبوق منذ 45 سنة، أي بالتحديد منذ حرب اكتوبر/تشرين 73. وليست أي طائرة إنها F16، فخر الصناعة الحربية الأمريكية. الحدث مفصلي بلا شك، وهو يؤشر إلى ما يكتنزه هذا البلد من إرادة وثبات في ظاهرة غير مسبوقة لدولة بحجم سوريا حتى درج الحديث في الربع الأخير من القرن الماضي عن "فائض الدور السوري"؛ هذا في الأساس، اللافت أكثر ويعني الكثير أن يأتي هذا بالرغم مما تعرض له هذا البلد على مدى السنوات السبع المنصرمة.
لم يكن الرد السوري مرتجلاً ولم يتخذ في لحظة غضب، والمعروف عن القيادة السورية صبرها، ودقة حساباتها ومنها أنها بقدر ما تعرف أمكانياتها فهي أيضا تدرك –وبعقل بارد- مكامن الضعف عند خصمها لا يحجبها عنها دخان البروباغندا ولا حشود الميديا الإعلامية، التي طالما استخدمتها امريكا بوصفها أهم الوسائل فيما اسمته "الحروب النظيفة"!!. وما يجب ان يعرفه من غابت عنهم الحقائق، أنه لا يمكن للحاضر أن ينقطع عن الماضي، وعلى مدى عقوده صمدت سوريا وفي اسوأ الظروف كما سيأتي، خلالها لم تترك امريكا وحلفاؤها وسيلة إلا واتبعوها من عسكرية كما في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 82 وقد سقط لسوريا آلاف الشهداء من جيشها، إلى سياسة الترهيب والترغيب كيما توقف دعمها للمقاومة في لبنان وفي العراق، ولن ننسى رحلة باول إلى دمشق حاملاً "دفتر الشروط الأمريكية " الاستسلامية ! ، في مقدمتها إعادة النظر في سياستها وتحالفاتها الخارجية مقابل رضى واشنطن. لكن الأكثر عصفاً جاء في هذا الغزو الإرهابي على مدى سبع سنوات كانت كفيلةً بإزالة اكثر من بلد لأكثر من مرة!؛ لا مبالغة في هذا، فكيف ومعظم الأعداء جاءوها في أحصنة طروادية خبيثة!.
نعم صمدت سوريا في ظروف سيئة، هذا لمن لا يعرف أو نسي السياسات المخيبة لقيادة بريجنيف خلال سنواته الأخيرة، والتي تردت بحكم العمر ومشاكل الداخل السوفيتي، وكانت الظروف أسوأ بكثير مع انكفاء الاتحاد السوفيتي بفعل بريسترويكا غورباتشوف ثم انهيار "الاتحاد السوفياتي" تلاه (شهر العسل) الروسي الأمريكي أيام يلتسين، ثم انشغال الرئيس بوتين لسنوات في لملمة شظايا (الأمبراطورية السوفيتية)، واحتواء تداعيات سياسات يلتسين الحمقاء. ويجب ان نتابع الروزنامة جيداً كي لا ننسى أن كل ذلك الصمود السوري جرى وكانت الثورة الإيرانية في بدايتها ثم منشغلةً في حربها الضروس مع نظام صدام، تلاها تضميد جراح وتداعيات هذه الحرب الأستنزافية التي أرهقت إيران كما أرهقت العراق حتى وقع الأخير في حضن الاحتلال الأمريكي.
من مأمنه يُؤتى الحذِر!!
بعد أن استعصت القلعة السورية على كل أساليب العدوان كانت الخديعة وجاء الطعن من الخلف ـ "من مأمنه يؤتى الحذر"ـ؛ غدرت تركيا في سوريا، أي بمن كانت تعدها "حليفاً استراتيجياً"، وحيث تحت جناح "المجلس الاستراتيجي السوري التركي"! قامت علاقات غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى بين البلدين اقتصاديا وعسكريا وأمنياً، لا تقل في حينها قط عما بين سوريا وايران، كذلك حال العلاقات مع السعودية وقطر. لم تلبثا أن انقلبتا على سوريا، او بالأصح كانتا تضمران الوجه الآخر، الأمر الذي فضحه وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم قبل اشهر قليلة عندما كشف المستور في مقابلة على محطة BBC حيث أعلنها صراحةً بأن " فخاً" كان يخطط لسوريا منذ عام 2007، وأن "ما أنفق على الحرب في سوريا من يوم انطلاقها إلى الآن تجاوز 137 مليار دولار.."، ذاكرا بعض التفاصيل عن ارقام دفعت ثمنا للانشقاقات وبالأخص في القوات المسلحة، وإلى كل ما يضعف الدولة من خصائص قوتها وصمودها.
ما الغريب!؟
بعض المتحذلقين يرددون، بأنه لولا الدعم الإيراني ونجدات حزب الله والتدخل الجوي الروسي لكان الوضع مختلفاً. والرد: ما الغريب في هذا؟. ما أشبه وضع سوريا بحال بريطانيا في الحرب العالمية الثانية التي واجهت في البداية تفوق الآلة النازية منفردة متلقية ضرباتها حتى تهدمت مدن وأحياء ومعامل بأكملها، ولولا الصمود الأسطوري لبريطانيا لما أمكن لأمريكا ان تدعمها او حتى تجد لنفسها موطئ قدم فيها من بعد.
كذلك الحال في سوريا التي واجهت حربا ضروسا منفردة، وما إن صمدت حتى جمعوا عليها كل شياطين العالم وجندوا ضدها كل أشقياء الأرض، في حرب كونية حقيقية، خصصت لها امريكا ستة أقمار صناعية، وغرفتي للعمليات الحربية!؛ واحدة في قاعدة انجيرليك الأميركية في تركيا، تضم ضباط مخابرات من الولايات المتحدة الأميركية وتركيا والسعودية وقطر والإمارات والمغرب والأردن و"اسرائيل" وفرنسا وبريطانيا، مهمتها تنسيق العمليات العسكرية القتالية في شمال سوريا. وأخرى في مدينة أربد، في الشمال الأردني داخل قاعدة الحسين الجوية متكونة من ضباط مخابرات أردنيين واسرائيليين وأميركيين وبريطانيين وسعوديين واماراتيين وقطريين مهمتها إدارة العمليات في القاطع الجنوبي من سوريا.
هل كان يمكن لروسيا ان تجد لها مكانا في قاعدة طرطوس أو مطار حميم لولا صمود هذا الجيش السوري الذي سقط منه ومن وحدات الدفاع الشعبية نحو 100 الف شهيد، وضعف هذا العدد من الجرحى؟ نعم، سوريا مدينة لحلفائها هذه حقيقة، وبقدر ما هم مدينون لها، إذ لولا صمودها والثمن الذي دفعته لما كان لهؤلاء الحلفاء المزايا الجيواستراتيجية للمكان، ومنافع أخرى ايضاً. ولا شك أن الرئيس بوتين كان دقيقا في التوصيف بأن الدفاع عن دمشق هو دفاع عن موسكو، وما ينطبق على موسكو ينطبق على بغداد وطهران، فما بالكم ببيروت الأقرب ايها المماحكون من بعض الساسة اللبنانيين زبائن السفارات الغربية، او موظفيها على الأصح !! من الذين سعوا لكي تكون سوريا "الصيدة" الخليجية!، وهو التعبير الذي استعمله وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم في مقابلته الأخيرة مع تلفزيون BBC وقد وصف فشله بعبارة وقحة: " كانت سوريا صيدة تهاوشنا عليها وفلتت"، اي اختلف عليها عربان النفط فذهبت من بين ايديهم !!.
وها قد طالت "هوشاتهم" واستفحلت، وباتوا لبعضهم فريسة بعضهم الآخر! . أما سوريا فتزدري لحومهم، باعتبار انه من المحرم تناول "لحم الميتة" وهم أمواتٌ من سـنوات!!