هل ستبدأ الحرب الكردية العربية.. واين سيقف الأميركان فيها؟
عبد الباري عطوان
إنطلقت الاحتفالات رسميا باستعادة مدينة الموصل من (داعش) التي انهارت دفاعاتها أمام هجوم كاسح للجيش العراقي وقوات الحلفاء، استمر أكثر من تسعة أشهر، وتخللته معارك دموية، ودمار شامل لمعظم معالم المدينة التاريخية.. من المقرر أن تستمر الاحتفالات لأكثر من أسبوع، ولكن أهل الموصل الذين يعيش نصفهم في مخيمات، ربما ستشارك نسبة محدودة منهم فيها، فلا توجد عائلة لم تفقد عزيزاً أو أكثر من أبنائها.
عمر "دولة الخلافة" كان قصيراً جداً في العراق، ولم يزد عن ثلاث سنوات فقط منذ إعلانها رسمياً من على منبر الجامع النوري الكبير، وحتى هذا المسجد التاريخي تحول إلى ركام، وانحنت مئذنته لتعانق ركامه، معلنة نهاية مرحلة وبداية أخرى.
الحرب ضد (داعش) انتهت رسميا في الموصل، ولكن حروباً أخرى، ربما أكثر شراسة، وأطول عمراً قد تبدأ لاحقاً في الموصل نفسها، لأن فراغاً سياسياً يتبلور، وعجزاً حكومياً في تقديم النموذج، والخدمات الأفضل، وإعادة الاعمار، ما زال واضحاً للعيان ويثير الكثير من المخاوف، فالكهرباء لم تعد إلى المناطق الشرقية من الموصل التي جرى تحريرها قبل اشهر، والمدرسون الذين عادوا إلى وظائفهم لم يقبضوا رواتبهم أيضاً، وجامعة الموصل الشهيرة تحولت إلى انقاض.
تراجعت حدة الخوف من غول "داعش"، ولكن درجة الخوف على مستقبل العراق في ارتفاع قياسي، ويمكن تلخيص هذه المخاوف المشروعة في النقاط التالية:
أولا: الإسمنت الذي كان يمتّن ويقوي التحالف الستيني، وجميع، أو معظم، القوى الإقليمية والعراقية، أي قتال (داعش) واجتثاثها من جذورها، تآكل كليا، وعُقد الوحدة والمصلحة المشتركة انفرط، فكيف سيكون مصير هذا التحالف، وهل نشهد صدامات من نوع آخر.
ثانيا: السيد مسعود البارزاني، زعيم كردستان العراق، أعلن عن استفتاء على الاستقلال في أيلول (سبتمبر) المقبل، أي بعد شهرين، ويريد أن تكون كركوك الغنية بالنفط العاصمة الاقتصادية للدولة الجديدة، فهل سيطلق رصاصة البدء في تفكيك العراق وتقسيمة على أسسس مذهبية وعرقية؟ وهل سنشهد حرباً أكثر دموية بين العرب والأكراد؟
ثالثا: لا جدال في أن طرفاً قوياً في العراق انتصر على مكون اجتماعي وسياسي آخر، فهل يتصرف الطرف المنتصر انطلاقاً من نزعات انتقامية، أم يتعلم من أخطاء الأميركان بعد "تحرير" العراق، ويستبدل "التهميش" بتحرك جدي نحو التعايش والحوار والمساواة، والعدالة الاجتماعية، وتكريس الهوية العراقية الوطنية الجامعة الموحدة؟
رابعا: إعادة الموصل وحدها يحتاج إلى مليارات الدولارات، وإعمار العراق كله يحتاج إلى ستين مليارا، حسب أكثر التقديرات محافظة، وخزينة العراق خاوية تماماً بسبب الفساد والسرقات، فمن أين ستأتي الأموال، وما هي التنازلات والشروط التي يريدها المانحون مقابل أموالهم.
خامسا: ما هو مصير القوات الأجنبية المتواجدة على أرض العراق؟ فهناك 6000 جندي أميركي، و2000 جندي تركي في معسكر بعشيقة.. وجميع هذه القوات جاءت تحت ذريعة تحرير الموصل من "داعش"، الآن وبعد أن تحقق التحرير هل سترحل هذه القوات؟ أم أنها ستتمترس وتخوض حروباً للدفاع عن "الدولة الكردستانية" التي ستأتي مكافأة للأكراد على مشاركتهم في حرب التحرير (البشمرغة)، ام لمواجهة ما يتردد عن أطماع تركية في الموصل، أم لتعزيز الكيان السني الجديد المقترح؟
نطرح هذه النقاط، وما تضمنته من أسئلة، ليس من منطلق تشاؤمي في وقت ينخرط كثيرون في مهرجانات الفرح والرقص والألعاب النارية احتفالا بالنصر، وهي مهرجانات مشروعة ومحقة، ولكن من منطلق الحرص والتحذير، وغياب أي خطط حقيقية مدروسة لدى الحكومة العراقية وحلفائها لمرحلة ما بعد الموصل.
"داعش" لن تختف باختفاء خلافتها في الموصل والرقة لاحقاً، وقوتها أو ضعفها، يعتمدان على كيفية تعاطي الحكومة العراقية وداعميها مع النقاط الخمس السابقة، ونعتقد أن أمام "داعش" ثلاثة خيارات رئيسية في المرحلة المقبلة:
الاول: أن تحل نفسها كمنظومة "إسلامية" طائفية "جهادية" متشددة، وتقبل بالهزيمة، وهذا خيار شبه مستحيل في رأينا بالنظر إلى استمرار تنظيم "القاعدة" الأم بعد احتلال حاضنته الأفغانية أميركيا عام 2001.
الثاني: أن يلجأ التنظيم إلى العمل السري، والتمدد إرهابيا، والانتقام من كل القوى التي أسقطت دولة خلافته، ونعتقد أن هذا الخيار، أي العمل تحت الأرض، هو الأكثر ترجيحا، وربما تكون اوروبا وأميركا وحلفاؤهما العرب الأهداف التي ستحتل قمة سلم الأولويات في المستقبل المنظور.
الثالث: أن تنتقل عناصر التنظيم ومن تبقى من قيادته الميدانية إلى "الولايات"، أو فروع التنظيم في المناطق الرخوة، أو الدول الفاشلة في اليمن، وأفغانستان، وليبيا، ومصر، ومنطقة الساحل الافريقي، والصومال، بالإضافة إلى البقاء في العراق وسوريا أيضا، ومحاولة اتخاذ هذه الولايات الرخوة مقرات جديدة، ونقاط ارتكاز، ومنطلقات للتحرك، وشاهدنا مؤشرات في هذا الصدد في أفغانستان واليمن وجنوب الفلبين وجنوب تايلند، علاوة على هجمات في أوروبا.
ربما لم يستطع هذا التنظيم الحفاظ على "دولة خلافته" لمدة أطول، ولكنه حافظ على قوة عقيدته المتطرفة والدموية، واستطاع نشرها على نطاق واسع في أوساط حواضنه الشبابية المُحبطة (بضم الميم)، و"حواضنه" المهمشة، وأي استراتيجية بعيدة المدى لمواجهته يجب أن تضع هذا الأمر في عين الاعتبار، وإن كنا نشك في وجودها أساسا.
مهرجانات الفرح بالنصر ستستمر حتما، فالإنجاز كبير بكل المقاييس، وجاء بعد تضحيات كبيرة، وبشرية خصوصا، ورغم كل الشكوك والمخاوف، ما زلنا نأمل في بزوغ فجر "عراق جديد"، غير "العراق الأميركي" تسوده المساواة والعدالة والتعايش والاستقرار والحكم الرشيد.