التشاور بين دمشق وعون.. مفتوح –
محمد بلوط
اختيار نزيل لبناني لقصر بعبدا، شأن لا تزال تسأل عنه دمشق، برغم سنوات أزمتها الست الدامية وانكفائها عن لبنان والإقليم. مع ذلك، يدرك السوريون بواقعية أن الإسهام السوري في الاستحقاق الرئاسي الحالي، لا يمكن مقارنته بالعهود الماضية، خصوصاً المرحلة التي تلت انتخاب الرئيس الياس سركيس في العام 1976، قبل أن تكرّ بعدها سبحة الاستحقاقات الرئاسية، التي لم يكن لها أن ترى النور من دون موافقة دمشق إلى حد كبير.
لم يحجب الحريق السوري الداخلي النظر إلى الإقليم وتوازناته، كما يقول مسؤول سوري، ومن خلاله إلى استحقاقات تبرز معالم قوة دمشق في إدارة النزاعات حولها أو الإسهام في حلها، أو انتهازها لتحقيق التوازن المطلوب، ومنها بطبيعة الحال حماية خاصرتها اللبنانية.
وقد يكون نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، آخر مسؤول سوري، يتناول الاستحقاق الرئاسي اللبناني بمزاج واضح بمجرد فراغ قصر بعبدا قبل سنتين ونيّف. وقتذاك، علّق المقداد على أحاديث أميركية ولبنانية، في ذروة الأزمة السورية وتراجع قدرة دمشق على التأثير في مثل هذا الاستحقاق بالقول، بالتزامن مع وجود جون كيري في بيروت، «إن من يفترض أن سوريا مستبعَدة من موضوع الرئاسة اللبنانية لا يفهم، ومخطئ أيضاً من يعتقد انه يمكنه إجراء مشاورات مع كل العالم ولا يتشاور مع سوريا».
المقداد لم يبالغ بتقدير الحضور السوري في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. صحيح أن دمشق كما طهران، تعطي تفويضاً مطلقاً للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، في كل أمر يتصل بملف لبنان، إلا أن ذلك لا يمنع دمشق من قول رأيها بعكس ما يفترض كثيرون. السوريون أقاموا علاقاتهم المباشرة وقنوات الاتصال التي لم تتوقف عن العمل مع أصدقائهم من المرشحين الرئاسيين. كما لم يتوقفوا عن نسج شبكة علاقاتهم مع الجنرال ميشال عون، في ذروة الأزمة والانكفاء للتعويض عن قدرتهم على التدخل المباشر، بدءاً من لحظات المصافحة الأولى في قصر الشعب الدمشقي، بين زعيم الأكثرية المسيحية اللبنانية والرئيس السوري بشار الأسد في الثالث من كانون الأول 2008، وبعد أشهر قليلة من اتفاق الدوحة الذي أتى بالرئيس السابق ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بمباركة عون.
خصومة شريفة مع عون خُتمت بمصالحة شريفة آنذاك، كما قال الرئيس الأسد، والأهم أن تلك العلاقات نشأت أيضاً على قاعدة من الندّية الواضحة وتحت الضوء، وتطورت قبيل أن تدلهمّ ليالي سوريا، وتُدمى ميادينها. أسبغت تلك المصالحة «زعامة مسيحية مشرقية» على عون، عبر السير على خطى القديس مار مارون إلى مرقده في براد السورية. «التكريس» سبق بشهر واحد اندلاع المحنة السورية، قبل أن يعود احتفال براد على «الجنرال» وعلى دمشق، خلال الأزمة بفوائد مشتركة: لدمشق إسهامها في الدفاع عن آخر بقاع الحضور المسيحي في المشرق العربي، ولكن من دون الانحدار إلى أحلاف الأقليات، ولـ «الجنرال» ظهيره الذي لن ينسى مواقفه المدافعة عن دمشق، حتى في عز أزمتها.
لا كلام سورياً علنياً عن ترشيح عون. لكن الخطوط بين المرشح الرئاسي والمسؤولين في دمشق لا تزال مفتوحة للتشاور حتى الأيام الأخيرة. ويرى مسؤول سوري أن وصول العماد عون «يشكل انتصاراً كبيراً لسوريا بعد محاولة إجبارها على الانكفاء. وهو انتصار أيضاً لأن من سيُعقد له النصاب رئيساً هو حليف موثوق سيعيد التوازن المطلوب في أداء المؤسسات اللبنانية الرسمية تجاه دمشق، بعد أن جعل فريق الرابع عشر من آذار مؤسسات لبنانية معاديةً خلال الأعوام الأخيرة».
ويتساوى تقييم دمشق مع تقييم حليفها «حزب الله» في النظر إلى صعود رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري مجدداً إلى رئاسة الحكومة، باعتبار هذه الخطوة «تضحية مطلوبة لتسهيل وصول عون وخروج لبنان من الفراغ الدستوري». وليس سراً أن دمشق تنظر هي أيضاً بقلق إلى فرضية عودة الحريري إلى لعب دور أساسي، خصوصاً أنه يعود مشترطاً في الملف السوري، تأجيل أي تطبيع للعلاقات مع دمشق، إلى حين قيام تفاهم سوري ـ سوري، وتحييد لبنان عن الصراع السوري، وهو ما يعني الإبقاء على ملف وجود «حزب الله» في سوريا على الطاولة. ويقول مصدر مطّلع إن دمشق لا تعتقد بوجود أية صفقة، قد يكون عقدها الرئيس المقبل مع الحريري، وقد تبلّغ مسؤول سوري كبير تطمينات أنه لم تُعقد أية صفقة تخرج عن نطاق المشاورات والتفاهمات مع دمشق.
وقال مسؤول سوري إن الانتصار الذي يتحقق بوصول الجنرال ميشال عون إلى الرئاسة في لبنان، تغشاه مخاوف من بعض الحلقة الأولى المحيطة به، وإن الموقف من عون، ليس الموقف نفسه من بعض المحيطين به.
ويقول مصدر مطلع إن عون يمثل مع ذلك ضمانة للتوازنات المطلوبة، وهناك الكثير من الأوراق التي لا يزال بالإمكان استخدامها للحفاظ على الانتصار الذي تحقّق، واستعادة التوازنات، لا سيما في المرحلة التي تلي انتخاب الرئيس، وبدء البحث بتشكيل الحكومة المقبلة.
ويشير المصدر نفسه إلى أن عون «كان صريحاً» مع الحريري، كما فهمنا منه، بأنه دعا رئيس «تيار المستقبل» إلى عدم الخوض في ملف سوريا ومشاركة «حزب الله» في قتال التكفيريين «فهناك حرب عالمية تشارك فيها أكثر من 80 دولة، ومسؤوليتنا أنا وأنت أن نمنع وصول النيران إلى بلدنا وأن نحمي استقراره».
الحريري: «حزب الله» مشكور؟
من جهته، قال الحريري الذي ترأس، أمس، اجتماعاً لكتلته النيابية، إنه يترك للعماد عون أن يتخذ القرار المناسب في حال قرر الرئيس الأسد زيارته في القصر الجمهوري لتقديم التهاني، وأكد أنه سيعارض استقبال أي موفد سوري للتهنئة في بعبدا. وجدّد اتهامه للأسد بأنه مجرم حرب، واعتبر أن النظام السوري قد سقط و «الأسد سيترك عاجلاً أم آجلاً». وقال في مقابلة مع برنامج «كلام الناس» ليل أمس، إنه اتفق مع عون على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، وأكد أنه لن يزور سوريا ولن يسمح لأيٍّ من وزراء حكومته بزيارتها أيضاً للتعاون مع النظام الحالي فيها. وشدد على أنه لا يمانع عودة الأمور إلى مجاريها في الشأن السوري بعد أن يكون الشعب قد حسم أمره (...)، وتمنّى على إيران وقف تدخلاتها في شؤون الدول العربية وأن تكون علاقتها طيبة مع كل الدول العربية وكل اللبنانيين وليس فئة منهم، وسأل: «هل رأيت الجنرال عون يوماً يحييّ الوجود في سوريا أو اليمن؟ ولا مرة، فلماذا نقوّل الرجل كلاماً لم يقله»؟
وأكد أنه أنجز، أمس، مسودة البيان الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية الجديدة، وقال إنه اتفق مع عون على الحفاظ على الدستور وإن أي تعديل دستوري يجب أن يحوز على إجماع اللبنانيين، كما نفى التوافق مع عون على قانون الانتخابات أو ملف النفط أو تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان أو قائد جديد للجيش أو تعيين العميد عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن، وأشار الى أنه لم يتطرق معه الى هذه المواضيع.
وقال إن «حزب الله» مشكور، لأنه لا يمانع عودتي إلى رئاسة الحكومة، وأكد انفتاحه على الرئيس نبيه بري، وقال: «سأبقى معه ظالماً أو مظلوماً، ومشكلته ليست معي إنما هي في مكان آخر».
وحول إصرار «8 آذار» على امتلاك «الثلث المعطل» وفق اتفاق الدوحة، سأل الحريري: «ألا يثقون هم بميشال عون وأريد أن أسأل سؤالاً هل نخترع ثلثاً معطلاً على شو، كل ما قمنا به هو خلط للأوراق» (ص 2).