خلاف داخلي أميركي وراء قصف الجيش السوري في دير الزور
الغارات الأربع التي نفذتها الطائرات الأميركية على مواقع الجيش السوري في محيط مطار دير الزور المحاصر من "داعش"، والتي استمرت لأكثر من 50 دقيقة متوالية، وتسببت باستشهاد نحو 90 من جنود الجيش السوري، وما لحقه بعدها من هجوم لتنظيم "داعش" الارهابي للسيطرة على المواقع المقصوفة، لا يمكن أن يكون مجرد خطأ كما أدعت وزارة الدفاع الأميركية، فالقدرات الاستطلاعية المعروفة للجيش الأميركي، والعلم المسبق لداعش بالغارة الأميركية ومحاولة استغلالها لتوسيع سيطرته على المنطقة، تدحض أي احتمال لفرضية الخطأ غير المقصود.
خدعة الخطأ الغير مقصود لم تنطلي على النظام السوري، ولا على حلفائه الروس المعنيين باتفاق الهدنة الذي وقعوه مع الجانب الأميركي في 12 من أيلول الجاري، حيث استعرت الحرب الكلامية بين الجانبين الروسي والأميركي على خلفية الغارة الأميركية، واتهمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، أميركا بأنها تساعد "داعش"، كما هاجم مندوب روسيا في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين أمريكا واتهمها بالتخطيط المسبق للعملية، وأضاف بأن أمريكا خرقت وقف إطلاق النار الساري في سوريا منذ فبراير/ شباط الماضي وانتهكت التعهدات التي قدمتها لدمشق حين أطلقت عمليتها العسكرية في سوريا، كما انتقد تشوركين الاصرار الأمريكي على التكتم على فحوى الاتفاق الأخير بين روسيا والولايات المتحدة لوقف إطلاق النار في سوريا.
هذا الحدث المفاجئ من نظر المراقبين، سلط الضوء على خلاف كبير وغير معلن داخل الإدارة الأمريكية، وتحديداً بين البنتاغون ووزارة الخارجية، حول الاتفاق مع روسيا، ويبدو أن روسيا قد قرأت الغارات الأمريكية على دير الزور، من هذا الباب تحديداً، حيث قال مندوب روسيا في مجلس الامن فيتالي تشوركين أول أمس: "نريد ان نعرف من يقرر الموقف الاميركي في سوريا، البنتاغون ام الخارجية الاميركية". كما تحدث موقع ديبكا الاسارائيلي الاستخباري قبل الغارات الأمريكية الأخيرة، بأن البنتاغون والجيش الأميركي لا يلتزمان بأوامر الرئيس باراك أوباما، بما يخص الهدنة والتعاون المشترك مع روسيا لمحاربة الارهاب في سوريا، وأضاف الموقع: "على رغم مرور 5 أيام على الهدنة التي تم التوصل إليها في جنيف، ما زال القتال دائراً بين الأطراف المتناحرة".
وكشف الموقع بأن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، شأنه شأن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، لا ينفذ تعليمات أوباما حرفياً، في ما يتعلّق بالتعاون مع روسيا في سوريا، حيث صرح وزير الدفاع آشتون قبل عدة أيام أنه "من غير الممكن التعاون عسكريا مع الروس في سوريا، لأنه يخالف مضمون القانون الذي صوت عليه مجلس النواب الاميركي بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم".
البنتاغون الذي يمثل الجناح الصقوري في الإدارة الأميركية، لا يريد للاتفاق مع روسيا أن يكلل بالنجاح، بل يعمل على تحويل الساحة السورية إلى مكان لاستنزاف الخصم الروسي، ومعه محور المقاومة من إيران إلى حزب الله. حيث يسعى هذا الجناح لتطويل الحرب في سوريا، وعدم السماح بتغييرات سياسية تصب في صالح الجيش السوري وحلفائه خاصة بعد الانتصارات الميدانية التي حققها في مدينة حلب، وهو يسعى إلى المحافظة على الأوضاع بهذا الشكل لريثما تأتي الإدارة الأميركية القادمة، علّها تصيغ حل سياسي يتساوق مع توجهاتهم، وليس وفق توجهات أوباما الذي يسعى قبل رحيله لتسجيل آخر النقاط على صعيد الأزمة السورية.
ومن ناحية أخرى، فإن تشكيل غرفة عمليات مشتركة روسية أمريكية لمحاربة "داعش" والنصرة كما ينص عليها اتفاق الهدنة، سيكون أول تعاون عسكري مشترك بين روسيا وأميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وليس من اليسير على الجناح العسكري في أميركا تقبل هذا الأمر، حيث أن هناك مخاوف لدى البنتاغون، من اطلاع الجانب الروسي على التكتيكات العسكرية الأميركية من خلال هذا التعاون العسكري المشترك.
وقد جاء اختيار دير الزور بشكل خاص، ظناً منهم أنه يشكل خاصرة رخوة للجيش السوري نتيجة الحصار الذي يفرضه "داعش" على المدينة منذ أشهر، ومن ناحية أخرى، فإن انكسار الجيش السوري في هذه المنطقة، من شأنه حذف سلطة الدولة بشكل شبه نهائي من مناطق شرق سوريا، وإبعادها عن مصادرها الاقتصادية الرئيسية ومنافذها الحدودية مع العراق، حيث أن البنتاغون كان قلقاً من أن الهدنة سوف تمنح للجيش السوري فرصة التقدم نحو تحرير دير الزور، على غرار ما حدث مع مدينة تدمر خلال هدنة شباط الماضية، خاصة في ظل الاستعدادات التي يجريها الجيش وحلفائه لارسال تعزيزات لفك الحصار عن المدينة.
ولا شك بأن الضغوط التي مارستها الدول الاقليمية الراعية للجماعات الارهابية المسلحة، كان لها أيضاً دوراً في المحاولات الأميركية لعرقلة اتفاق الهدنة، ويرى مراقبون أن السبب الرئيس الذي يدفع إدارة أوباما للتكتم على بنود الاتفاق، هو محاولة عدم اغضاب حلفائها في المنطقة، الذين يرون أن إنهاء وجود جبهة النصرة والجماعات الارهابية المسلحة، هو عملياً كسر للعمود الفقري للمعارضة المسلحة ضد الدولة السورية.
من ناحية أخرى كشفت الغارات الأميركية على مواقع الجيش السوري في دير الزور، هشاشة الهدنة الحالية، وانعدام الثقة المتبادلة سواء بين أطراف الصراع من جهة، أو حلفائهم المتمثلين بروسيا وأميركا، حيث شهدت الهدنة أكثر من 250 خرق خلال اسبوع من بدءها، كما أن الجيش السوري عاد إلى طريق الكاستيلو بعد إخلائه، وذلك بعد محاولات المجموعات المسلحة إستغلال الهدنة لإعادة السيطرة عليه.
يبدو أن أي آفاق للحل السياسي في سوريا، لن تتضح قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، وإلى ذلك الحين ستظل أميركا تماطل، كما فعلت إزاء منع عرض الهدنة السورية على مجلس الأمن، إلا أن المسلّم في ظل كل هذه التجاذبات الاقليمية والدولية، أن الكلمة ذات التأثير الأكبر في كل ما يجري، هي ما يفرضه الميدان.
ا/ الوقت