اردوغان يُحرق نفسه لإشعال المنطقة!
عباس الزين
الحلم التركي بمنطقةٍ عازلة انطلاقًا من الحدود بإتجاه الأراضي السورية لم يزل قائمًا، فرغم المعارضة الأميركية له، تبدو انقرة مصرّة على المضي بسياساتها العسكرية التي تريد منها السيطرة على المنطقة الحدودية بشكلٍ كلي، برًا وجوًا. لكن الخطط التركية بالتوسع لم تصطدم بالمعارضة الأميركية فقط، فقد أتت روسيا وقضت نهائيًا على الآمال التركية المعقودة على المجموعات المسلحة، بالسيطرة على أقصى الشمال السوري لفتح الطريق لها، حيث أنّ الغارات المكثفة التي يشنها سلاح الجو الروسي على مواقع وتجمعات المسلحين في المناطق الحدودية، قطعت معظم خطوط الامداد التي كان يعتمد عليها الجانب التركي ومجموعاته، وشكلت ممرًا آمنًا للجيش السوري وحلفائه بالتقدم شمالًا بإتجاه الحدود مع تركيا.
لم يعد امام اردوغان أوراقٌ يمكن أن يستفيد منها، لوقف ما يحصل على حدوده مع سوريا، فالإتفاق الذي عقدته الإدارة الاميركية مع الحكومة التركية لإغلاق حدودها دفعها بإتجاه المجهول، وما حصل من إسقاطٍ لطائرة روسية كانت داخل الأراضي السورية من قبل سلاح الجو التركي، يعطي انطباعًا عن مدى المأزق التركي. فقرار اسقاط طائرة روسية لا يمكن اتخاذه إلّا في حال افلاس الخيارات الأخرى بأكملها، لما يمثله من خطورة ممكن ان تؤدي الى اشتعال المنطقة، وعواقب وخيمة على الحكومة التركية، وادارة اردوغان الخارجة من فوز في الإنتخابات التركية الأخيرة.
إضافةً الى ذلك، فإن المواجهات التي كانت تحصل بين الجانبين الروسي-والتركي في الخفاء، بما يخص دعم المجموعات المسلحة من قبل التركي، واستهدافها من قبل الروسي، ولا سيما القصف الروسي الأخير الذي طال ناقلات النفط التابعة لتنظيم "داعش” والتي تعتبر تركيا المستفيد الأول منها، اظهرها الأتراك أمس الى العلن، لشعورهم أن الأمور متجهة نحو الفشل وانسداد الأفق بما يخص استراتيجياتهم المتبعة في الأزمة السورية.
الكلام الروسي المتمحور حول اسقاط الطائرة الحربية، يتصاعد بشكلٍ تدريجي، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اعتبر أنّ إسقاط تركيا للطائرة الروسية هو طعنة في الظهر من قبل داعمي الإرهاب، وجّه للأتراك إدانة تحمل اوجه متعددة. من جهة وضع بوتين الحكومة التركية امام مسؤولياتها في تحمل تبعات هذا العمل، واعتبره طعنة، لأنّ استهداف الطائرة الروسية لا يخدم سوى الإرهاب الذي تزعم تركيا محاربته. ومن جهةٍ أخرى، هناك اتهام روسي مباشر موجه الى تركيا في دعم الإرهاب.
بناءً عليه، فإنّ تركيا أصبحت بنظر الإدارة الروسية دولة داعمة للإرهاب بشكلٍ علني. لذلك، فإنّ أي جندي أو آلية عسكرية تركية تتحرك بإتجاه الأراضي السورية هدف شرّعه بوتين لنفسه، بإعتبار التحرك التركي قوة داعمة ومساندة للمجموعات الإرهابية التي تزعم محاربتها، وهذا ما أكده بيان هيئة الأركان للقوات المسلحة الروسية، بكشفه عن إجراءات ستتخذ لتعزيز الدفاع الجوي، ومنها تموضع الطراد "موسكو” المزود بمنظومة صواريخ "فورت” المضادة للطائرات، وهي منظومة مشابهة لمنظومة "إس-300″، في ساحل اللاذقية. وحذرت الأركان العامة أن "جميع الأهداف التي ستمثل خطرًا محتملًا علينا سيتم تدميرها”.
الى ذلك، فإنّ العقل الروسي لا يعمل بمنطق الثأر، هذا أمر مفروغ منه، والمواجهات الدائرة الآن بين الأطراف المعنية في الملف السوري، ليست ضمن منطق الرد والرد المقابل، وإلّا لكان استهداف الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي هو الرد على ما حققته روسيا بغاراتها الجوية ضد المجموعات المسلحة. ما تغير أن الأمور اصبحت مكشوفة، ولم يعد هناك شيء مخفي بما يخص التورط التركي في دعم المجموعات المسلحة، فحتى التبريرات التركية لإستهداف الطائرة الروسية لم تكن مقنعة، واي كلام عن خرق الطائرة الروسية للمجال الجوي التركي قابله نفي روسي، وعدم تأكد من الجانب الأميركي. حيث اعتبرالمتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الأمريكية ستيف وورين، إن "البنتاغون لا يمكنه إثبات اختراق طائرة "سوخوي – 24″ الروسية للمجال الجوي التركي قبل إسقاطها بصاروخ أطلقته "إف – 16″ التركية”. لذلك فإن الجانب الأميركي يُخرج نفسه من الموضوع، بطريقة توحي أنه غير مستعد لأي مواجهة ولو سياسية مع الجانب الروسي.
من جهةٍ أخرى، فإن استهداف الطائرة الروسية حصل على بعد كيلومترات قليلة من الحدود السورية-التركية، وفي اي الأحوال فإنّ أي استهداف يجب أن يسبقه تحذير من الجانب التركي ينبّه الطائرة الروسية من اقترابها من الحدود التركية، لكن بيان هيئة الاركان للقوات المسلحة الروسية أكد أن "وسائل المراقبة الميدانية لم تسجل أي محاولات لطاقم الطائرة التركية للاتصال مع طاقم الطائرة الروسية”. ما يثبت ان استهداف الطائرة كان مخططًا له من قبل، وليس وليد لحظة معينة.
وفي سياقٍ متصل، فإنّ تواجد سلاح الجو الروسي على مقربةٍ من الحدود التركية لا يُعتبر المرة الأولى، بل انه كان يتكرر بشكلٍ شبه يومي، لكن القرار التركي بإسقاط الطائرة جاء في هذه اللحظات، التي تشهد متغيرات اقليمية ودولية، من ناحية التحالفات التي تزداد تعقيدًا مؤخرًا، وما يجاريها من تحرك عسكري دولي مكثف بإتجاه المتوسط. وفي غضون ذلك، جاء الإستهداف التركي للطائرة الروسية مع كلامٍ فرنسي بريطاني برعايةٍ اميركية لتكثيف الضربات ضد الإرهاب في سوريا، وفي الخباء المقصود من هذا الكلام، هو التواجد العسكري في سوريا، وعدم ترك الميدان السوري الذي يحدد مستقبل الشرق الأوسط بيد الإيراني والروسي. فكانت الضربة التركية رسالة موجهة من حلف "الناتو” الى روسيا.
يمكن القول إنّ تركيا استُدرجت للقيام بهذه الضربة، التي لن تقتصر نتائجها على الجانبين السياسي والعسكري، بل ستطال الجانب الإقتصادي الأكثر إيلامًا، ويكمن ذلك في التبادلات التجارية بين موسكو وانقرة التي من المتوقع ان تتوقف، بعد ان كان من المفترض بها ان تصل في الخمس سنوات القادمة الى أكثر من ثلاثين مليار دولار. وما يشكل خسارة جسيمة لتركيا، اكثر من القطاع الإقتصادي، هو القطاع السياحي، فقد وصل عدد السياح الروس الذين قصدوا تركيا بهدف السياحة في العام الماضي، الى نحو 4.38 مليون شخص، وذلك من أصل 42 مليون سائح، أدخلوا ما يقارب 36 مليار دولار أمريكي إلى الاقتصاد التركي. وقد أوصى اتحاد السياحة الروسي الشركات العاملة في قطاع السياحة في روسيا، بوقف بيع تذاكر الرحلات السياحية إلى تركيا، وذلك بعد إسقاط المقاتلة الروسية من قبل تركيا في سوريا.