قناة الميادين.. لماذا؟..
أحمد الشرقاوي
هذه ليست المرة الأولى التي تعلن فيها مملكة الكبتاجون الحرب على الإعلام الحر الشريف، وتحاول من خلال المال الحرام حينا والضغط السياسي أحيانا، معاقبة القنوات والمواقع التي تنتهج خطا إعلاميا مستقلا وموضوعيا، وفي ذات الوقت ذكيا وهادئا، بعيدا عن الإثارة المسرحية، والانفعال المصطنع لشذ انتباه الناس، لكنه في العمق خطاب يكشف سياسات "السعودية” التخريبية في المنطقة، ويفضح تآمرها على الدول والشعوب، وتبعيتها للقوى الصهيو – أمريكية المعادية لقضايا الأمة المحقة والعادلة..
لقد سبق وأن مارست "السعودية” ضغوطا كثيرة على شركة القمر الصناعي "عرب سات” أدت لتوقيف بث قناة العالم، وهددت قناة المنار بنفس المصير بسبب دعمها لثورة الشعب البحريني المظلوم، ومنعت موقع فارس بالعربي بسبب فضحه للجرائم السعودية في اليمن، وكذلك فعلت مع موقع بانوراما الشرق الأوسط المقاوم الذي دأب على كشف كل شاردة وواردة تتعلق بنظام ‘آل سعود’ وسياساته الرجعية التي تريد العودة بالأمة لعصور الجهل ليسود الظلام.
اليوم جاء دور قناة الميادين، فقررت مملكة الظلم والقهر أن تطفئ هذه الشمعة المضيئة في ليل العرب الطويل، بالرغم من أن القناة تتعامل مع الأحداث والأزمات بحياد وتجرد واضح، فلا تتحامل على جهة ضد أخرى، ولا تنافق، ولا تساوم، وتلتزم بأدب الحوار الحر الهادئ، بعيدا عن لغة السحرة، وضجيج المهرجين، وصراخ الممثلين، بصوت الحاضر وصورته الدالة المعبرة..
وبالرغم من أن "السعودية” ومشيخات الخليج الفرسي، يملكون إمبراطوريات إعلامية ضخمة، أقامتها لهم شركات عالمية رائدة في المجال، وبيوت خبرة صهيونية وغربية معروفة بحرفيتها العالية في بروبغاندا الإعلام وماركتينغ التواصل، وينفقون على برامجها وأطقمها مليارات الدولارات من مداخيل الريـع، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا في ترسيخ ثقافة تقديس الصنم من قبل القطيع، وتحويل الشعوب إلى أتباع للوهابية الظلامية، فاقدي الإرادة والحرية، يعيشون على نمط الأعرابي زمن الجاهلية، في ملبسه ومسكنه وطريقة أكله وأسلوب معاملته لزوجته وأولاده لا يحيد عن ذلك قيد أنملة..
وكان للثورة الإعلامية والثقافية الشجاعة التي فجرها إعلام المقاومة الشريف دورا رائدا في إفشال ثقافة القمامة الوهابية، واقتلاع أوتاد خيمتها البالية، ليلقي بها في صحاري الجاهلية تدروها رمال الواقع، برغم قلة قنواته ومواقعه ومنابره ومحدودية إمكاناته..
هذا النجاح الكبير الذي تجلى في تنوير الأمة واستنهاض روح المقاومة والتحدي في المجتمعات العربية التي كانت تقاد من قبل فراعنة العصر كما تقاد الخراف بالعصي والكلاب المدربة، أثار غضب وحنق الأسر الإقطاعية الحاكمة في الخليج الفارسي، فلم تجد حلا لهذه المعضلة غير ممارسة الضغوط على الحكومة اللبنانية لتتخذ إجراءات عقابية بحق قناة الميادين، وحين رفضت وزارة الاتصال في بيروت الانصياع لضغوط ‘آل سعود’ رافعة شعار حرية الإعلام وقدسية الرأي، هددت مملكة الكبتاجون بنقل مقر شركة "عرب سات” من بيروت إلى عمان بالأردن كإجراء عقابي..
لكن السؤول الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: – ما الذي اقترفته قناة الميادين لتعلن عليها مملكة الشر والظلام حربا شعواء تنتهي بقطع بث القناة من على قمر "عرب سات” الذي هو في الأصل شركة مساهمة في ملك كل الدول العربية وليس "السعودية” فحسب؟..
الحقيقة أن الفرق بين قناة الميادين، وقنوات العهر والتدجين المنضوية تحت لواء إمبراطوريات الإعلام الخليجية كالجزيرة والعربية على سبيل المثال لا الحصر، هو أن قناة الميادين لا تدعي أنها تقدم للناس الحقيقة، بل تكشف لهم الواقع كما هو بشجاعة وصدق، عاريا مجردا ليس بينه وبين المتلقي حجاب، وتترك للمتابع حرية الحكم على الأحداث وتكوين رؤيته الخاصة للحقيقة، كل حسب فهمه ومستوى إدراكه..
هذا النهج الإعلامي الجديد وغير المسبوق في العالم العربي، حول قناة الميادين في بضع سنين، من وسيلة إعلامية إخبارية إلى منارة تنويرية وتثويرية في نفس الوقت، فأصبحت بالتالي هي أذن المواطن العربي الذي يلتقط بها الأخبار، وعينه التي يرى بها الحقيقة كما يشهد بها الواقع في الميادين..
وإذا جاز لنا اختزال استراتيجية قناة الميادين في عبارة مفيدة يمكن القول، أنها وبحرفية عالية، نجحت في تحويل المتابع من مشاهد متفرج إلى شاهد على الواقع متفاعل معه بالعقل والإحساس، لأنها تقوم بنقله إلى قلب الحدث ليعيش تجربته الخاصة في الفهم والإدراك، بمنطق العصر ولغة الحدث، لا بالخطاب العاطفي والحماسي الذي فقد جدواه ومعناه..
وبهذا المعنى، فجريمة قناة الميادين التي أثارت حفيضة مملكة الشر والإرهاب، تكمن في أنها نجحت وإلى حد بعيد في تحرير العقل العربي من معتقل الماضي الذي أقام أسواره المنيعة إعلام الزيت العاهر، وأعادته إلى الحاضر ليعيش تجربته الخاصة مع الواقع كما هو لا كما يراد له أن يراه..
وخطورة هذا الأمر من وجهة نظر الأنظمة الخليجية الرجعية، أنه ساهم في تنوير العقول ما أدى إلى تثوير الناس، حيث أصبح المواطن العربي يدرك بالإحساس أنه ليس مغفلا ليكون فردا من القطيع، وأن مصيره ومستقبله لا يكمن في الماضي، وأن صناعة المستقبل تمر حتما عبر قنطرة تغيير الواقع.
وبفضل قناة الميادين التي أصبحت اليوم تتربع على عرش الإعلام العربي بلا منازع، بل وتنافس إمبراطوريات الإعلام الغربي، بما تتميز به من جرأة، ونزاهة، وصدق، وموضوعية، ومهنية عالية، خسرت قنوات التضليل والتدجين الحليجية لسانها، وفقدت تأثيرها على الناس، وأصبحت برامج العهر لا تلهيهم عن واقعهم المأساوي، وزخرف القول لا يعوض عنهم الإحساس بمرارة الظلم، وأصبح خطاب مملكة "الشر” لا يعنيهم في شيئ بعد أن تفاقمت المشاكل واستحكمت الأزمة وعاد الوعي، ولم يعد المواطن العربي يعيش خارج التاريخ هاربا من قدره بعد أن أعادته قناة الميادين وإعلام المقاومة إلى أرض الواقع ليعيش تجربته الخاصة بوعي ومسؤولية بعد أن قرر التموضع في الجانب الصحيح من التاريخ.
هذا، في ما ظلت قنوات الدجل والتضليل، تغرد خارج السرب، في فضاء ملوث خانق لم يعد يتنفس من سمومه إلا المرضى المغفلون والجاهلون المنسلخون عن الواقع، ولم يعد يقبل بالعمل في هذه البيئة الموبوءة بالكذب والدجل والتزوير والتحوير إلا تجار الكلام وصناع الحرف من منعدمي الضمير، الذين لا يستطيعون العيش خارج منظومة الإعاقة والتخلف والخيبة والعجز التي أفرزتها ثقافة الغزو والهيمنة الفكرية الصهيو – أمريكية، فأنتجت الخيبة والصدمة والمآزق، وأدت في النهاية إلى ما نعيشه اليوم من انهيار وخراب وكوارث..
وأمام هذه الثورة الثقافية المباركة التي أبطلت مفاعيل الخديعة وأزالت الغمام من على أعين الناس فأصبح بصرهم حديد، وأنارت عتمات الظل في قلوبهم المظلمة، وأعادت لهم وعيهم المغيب بفعل عمل السحرة من فقهاء السلاطين وتجار الحرف وسماسرة السياسة، وحفزت عقولهم على التفكير الحر المنتج، وحركت فيهم مكامن القوة والتفاعل الإيجابي مع التغيير.. لم يعد من الممكن لقنوات العهر والتضليل أن تفرض بعد اليوم رؤيتها للحقيقة كما يريدها حكام الزيت أن تكون لا كما يشهد بها الواقع، فيما يشبه دعوة المتلقي إلى إلغاء عقله والاكتفاء بما تفرغه ماكيناتهم الرجعية فيه من نفايات طائفية ومذهبية سامة..
وهذا يشبه إلى حد بعيد مدرسة النقل المعادية لمدرسة العقل في التاريخ الإسلامي، والتي تبين أن كل المآزق والكوارث التي يعيشها الإنسان العربي اليوم هي بسبب نهجها الذي اعتمد سلاح التكفير في مواجهة التفكير، وبفضل هذا النوع الخطير من الإرهاب الذي ابتدعه الحكام الأعراب وكهنتهم السحرة، ساد الخوف، فتحول العقل العربي إلى مكب للنفايات، يتلقى كل ما يملى عليه دون أن يمتلك جرأة النقد أو المعارضة، فعاش زمنا طويلا غائبا عن الوعي والفعل، بلا عقل ولا لسان..
لقد نجحت المدرسة الرجعية الأعرابية أيما نجاح في تقييد حرية الرأي والإبداع والمبادرة، وأنتجت مجتمعات مدجنة، عرفها فقهاء السلاطين بالعامة وسواد الأمة، بل واتهموا الناس في عقيدتهم الفطرية وقالوا عنهم أن إيمانهم لا يختلف عن إيمان الجهال..
ومن يقرأ التراث الإسلامي بالمنهج النقدي، يكتشف حقيقة وخطورة ما حدث، ويدرك أن ثقافة العجائبي والغرائبي التي يزخر بها، والتعارض حد التناقض الذي يميزها، مرده هذا التحالف الميكيافيلي الخبيث الذي كان قائما بين الحكام ورجال الدين تحديدا، في استنساخ لتجربة فرعون والكهنة لانتزاع السلطة من يد الناس واحتكارها من قبل "السلطان الإله” ضدا في إرادة السماء..
اليوم، أصبح المواطن العربي يدرك عن قناعة، أن رابوع الجهل والتخلف والفقر والمرض الذي تحول إلى قدر بالنسبة له، مرده هذا المنحى التسلطي الخبيث الذي حرص على فرض الوصاية على عقول الناس عبر العصور والدهور وصولا إلى يوم الناس هذا، بهدف سرقة إرادتهم والتحكم في مصيرهم ومستقبل عيالهم.. وهذا هو الشرط الوحيد لتأبيد الفساد الذي يحميه الاستبداد..
وبفضل هذه الصحوة المباركة التي أحدثها إعلام المقاومة في حياة الناس، أصبح فهمهم للواقع والتاريخ أكبر وأعمق من أي وقت مضى، بعد أن وصلوا إلى خلاصة نهائية، قاطعة، حاسمة، ومطلقة، مؤداها، أن الديناصوريات التي استعمرت الأرض انقرضوا، والفراعنة الذين استعبدوا الناس ذهبوا إلى لا رجعة، والإمبراطوريات التي دمرت حضارات ونهبت دول وذبحت شعوب قد انهارت بعد أن طغت وتجبرت، وأن الطواغيت العرب منهم من قتل ومنهم من هرب بعد أن ثارت عليهم الشعوب فلن يعودوا، ولم يبقى في حياة الأمة اليوم غير بقايا أصنام جاهلية آن الأوان لنحطمها ونلقي بأشلائها في مزبلة التاريخ..
حينها.. وحينها فقط ستقطع ألسنة الكهنة وأصابع السحرة، وسيعود صوت الإله الحي الذي لا يموت ليسمع بين الناس، فينتهي الظلم والإقطاع، ويسود العدل والمساواة، ويشعر المواطن العربي بقيمة الحرية والكرامة، ويفهم أخيرا معنى أن يكون الإنسان إنسانا.
فتحية لإعلام المقاومة، وتحية لقناة الميادين، وشكرا لكل الشرفاء المقاومين، الذين كشفوا لنا أن الطغاة والجبابرة لم يعد بمقدورهم فرض ثقافة العجز والاستسلام على الأمة، لأن البربرية لم يعد بمقدورها التخفي وراء الشعارات الإنسانية، بعد أن أصبحنا نعرف ما يجري ونعرف أيضا ما نريد.
..