سوريا بعد ’النقلة’ الروسية
حسام مطر
نقلة روسية دراماتيكية على رقعة الشطرنج السورية، نقلة إعادت تشكيل موازين القوى. سبق للساحة السورية أن شهدت نقلة مماثلة حين اتخذ حزب الله قرار الانخراط في الحرب السورية عام 2013. الظروف التي تمر بها روسيا، تضعها أمام خطوة عسكرية لا يمكن القبول بفشلها، ولذا لا بد من احتسابها بدقة وربطها بمسار سياسي واضح في نهاية الأمر. لا يمكن لبوتين أن يخوض مواجهة مفتوحة في سوريا دون أفق أو رؤية سياسية، وهي رؤية ستظهر مع تقدم الجهد العسكري الروسي وقدرته على كسر إرادة الحرب لدى المعارضة وداعميها الإقليميين. سيضرب بوتين بقوة، وفي الوقت ذاته سيفتح منافذ ضيقة للحل، تتسع بقدر ما ترضخ أنقرة والرياض.
الخطوة الروسية تلت الاتفاق النووي الإيراني الذي توشك مفاعيله أن تظهر، سيطرة المعارضة المدعومة من الأتراك والسعوديين على مدينتي إدلب وجسر الشغور وأجزاء من سهل الغاب، محاولة الروس الفاشلة في إحداث خرق مع السعودية، محاولة الأتراك إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري رفضتها واشنطن، وثم إعلان الأميركيين فشل مشروعهم لـتأهيل معارضة معتدلة لمواجهة داعش بشكل سريع. وقبيل الانعطافة الروسية برز تحول غربي واسع بشأن القبول بالرئيس الأسد ضمن المرحلة الانتقالية، تلا ذلك موافقة الأميركيين على شراكة الروس في مواجهة داعش وقبولهم التنسيق الميداني لتفادي أي احتكاك غير مقصود.
خلال الأشهر الاخيرة تفاقم القلق الغربي من ظاهرة داعش وإمكانية إنهيار الدولة السورية، فيما كان الأتراك والسعوديون يصرون على مقاربتهم العدائية الداعية إلى رحيل الأسد كمقدمة لأي اتفاق سياسي. دخل أوباما سنته الأخيرة ويريد توضيب الملف السوري بشروط آمنة لتسليمه لخلفه بأقل المخاطر، بعدما نجح في تدمير أجزاء كبيرة من الدولة السورية. ما تقدم يفسر اتساع الشرخ بين الأميركي وحلفائه الإقلميين بخصوص الوضع السوري، كما كان الشرخ بخصوص الاتفاق النووي الى حد ما.
إذن، التحول الميداني في الشمال لصالح المعارضة، زيادة مخاطر داعش، دخول أوباما "الوقت المستقطع”، وخلاف الأميركي مع حلفائه، خلق نافذة تسلل منها الروسي لأداء نقلته الدراماتيكية. الحوار الأميركي – الروسي حول سوريا لم يخمد طوال الأزمة السورية، بل كان مفتاحاً لضبط الحرب كما في تسوية الملف الكيميائي السوري. يعلن الأميركيون اليوم التفاهم مع الروسي حول الشق المتعلق بداعش ويعارضون دوراً روسيا يستهدف "المعارضة المعتدلة” وهو ما ستنظر إليه واشنطن "بقلق شديد” (كما عبر باتريك رايدر، المتحدث باسم القيادة الأميركية الوسطى).
تفاجأ الأميركيون بهجمات الروس على مواقع "للمعارضة المعتدلة” في الشمال السوري؟ بحسب مقال نشرته النيويورك تايمز (هيلين كوبر وميخائيل غوردون) في 29 أيلول، أي قبل بدء الهجمات الروسية، فإن "صناع القرار الأميركيين يعتقدون أن الأولوية الروسية ليست بالضرورة مواجهة داعش.” من ناحيته، ذكر فيليب بريدلاف (القائد العام لقوات الناتو في أوروبا) في كلمة ضمن ندوة ألقاها بـ 28 أيلول، أن بوتين يسعى لعدة أهداف تسبق البدء بضرب داعش، ومن هذه الأهداف الظهور كند على الساحة الدولية، تأمين موطىء قدم نحو المياه الدافئة، وإطالة عمر الحكومة السورية.
لا يعني ما تقدم موافقة الأميركيين بشكل تام على هذه الضربات، بل يبدو أن الروس ومن باب احتساب المخاطر وردود الفعل، أنهم أطلعوا الأميركيين على أن الهجمات ستتجاوز داعش لحماية الدولة السورية من مخاطر جدية. يصر الأميركيون على حصر الموافقة بضرب الروس لداعش فيما يعترضون لفظياً، حتى اللحظة، على ما يتجاوز داعش والنصرة وينبهون الروس من الظهور كعدو للسنة في المنطقة وما سيلي ذلك من موجة تطرف وتدفق للمقاتلين وانفجار الجبهة السورية مجدداً.
لا يمتلك بوتين قدرة المغامرة بخطوة عسكرية كبيرة بهذا الحجم بعيداً عن الحدود الروسية دون توافق ضمني مع الأميركيين حول الخطوط الحمر الأساسية. بوتين نفسه الذي خسر نصف أوكرانيا، بما تعنيه لروسيا، يدرك أن المواجهة مع الأميركيين لها سقف لا يمكن تجاوزه في النهاية. خطوة بوتين تسعى لإظهار روسيا كقوة دولية وليس إقليمية مأزومة في أوكرانيا، قوة دولية لديها مصالح مشتركة مع الأميركيين وغيرهم عبر عنوان مكافحة الإرهاب. التدخل في سوريا يعيد تظهير صورة بوتين في الداخل وصورة روسيا في الخارج.
يريد بوتين تطبيع العلاقات مع الغرب وفق معايير القانون الدولي، أي أن التدخل الروسي لا يسعى للصدام مع النظام الدولي بل تأكيد أهليته للشراكة فيه. ولذا يتفهم بعض الأميركيين خطوة بوتين مثلما يفعل ريك سانتروم (أحد المتنافسين الجمهوريين للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة) الذي صرح أنه لا مشكلة لديه بأن الروس يحاولون حماية أمنهم، فبوتين يتصرف بعقلانية شديدة في سوريا، وفي المقابل "علينا” التوجه لمواجهة داعش في العراق وترك الملف السوري للروس لأن الولايات المتحدة لا تملك خيارات جيدة في سوريا.
سوريا بالنسبة للروسي لها أهميتها بذاتها بمعزل عما يجري من تنافس روسي – غربي في شرق أوروبا ووسطها. روسيا الهادفة للحفاظ على صورتها كقوة دولية (لا إقليمية) بحاجة لنقاط ارتكاز حول العالم لا سيما في الشرق الأوسط لأسباب جيو-استراتيجية واقتصادية وثم ثقافية. روسيا تطمح من خلال سوريا أن تشارك الأميركي في إدارة توازنات المنطقة وحجز مقعد على طاولة الإقليم التي تحضرها أبرز قوى الطاقة حول العالم (النفط والغاز)، الطاقة التي هي جوهر القوة الروسية. التدخل الروسي يهدف، بحسب عدة مسؤولين أميركيين – نقلاً عن السي أن أن – إلى جعل روسيا القوة التي تضبط أجندة الأزمة السورية من خلال الميدان. هذا الضبط هدفه خلق ظروف ملائمة لتسوية سياسية تضمن المصالح الروسية في حدها الأقصى، سواء مع الرئيس الأسد أم بدونه بعد المرحلة الانتقالية التي قد تطول حتى نهاية ولايته الرئاسية الأولى. السؤال المعضلة حول التدخل السوري هو بخصوص الشمال السوري، الورقة الأساسية لحلفاء واشنطن.
سيختبر الروسي بالنار حدود السماح الأميركية وحدود الرضوخ التركي – السعودي في الشمال، سيسير الجميع على حافة الهاوية مع مواصلة التفاوض تفادياً لصدام يفوق قدرة الجميع على الاحتمال. الأميركي ليس متضرراً من ضغط روسي محدود على الأتراك والسعوديين قد يجعلهم أقرب للمقاربة الأميركية. يترك الأميركي للروسي فرصة المغامرة، فسواء نجح في "عقلنة” الأتراك والسعوديين أو غرق في الوحول السورية، يحصد أوباما مكاسب متفاوتة بمجهودات الآخرين.
وعليه، فإن من الممكن إيجاز الأهداف الميدانية الروسية بالتالي:
1-المساهمة الحاسمة في إعادة السيطرة على نقاط حساسة في خط الجبهة من اللاذقية حتى حماة بما يضمن خطاً حصيناً ومتماسكاً وقادراً على تأمين أمن مستدام للساحل وحمص.
2-الإغارة على نقاط الجماعات المسلحة من جنسيات أسيا الوسطى.
3-الردع والمساهمة في صد أي هجمة باتجاه مناطق الدولة السورية.
4-استنزاف داعش والنصرة بالقصف الجوي في كل سوريا.
5-المؤازرة الجوية لتقدم القوات الحليفة باتجاه مناطق لداعش ويمكن أن تكون البداية في تدمر ومنطقة الحدود العراقية السورية.
6-الروسي ليس في وارد استعادة الشمال السوري (بإستثناء ما ورد في النقطة الأولى) ولكنه سيجعلها منطقة "ميتة” كي يسلب التركي والسعودي قدرة الانطلاق منها لتهديد الدولة السورية، وذلك لحين نضوج الحل السياسي. يبقى أن قضية الفوعا وكفريا مرهونة لما يجري بخصوص اتفاق الهدنة.
المتضرر الأكبر من الخطوة الروسية هو الأتراك ثم السعوديين، وهنا يكمن التساؤل الأساسي. من المتوقع أن تسعى الدولتان لموازنة الدخول الروسي من خلال تفعيل التحشيد والتعبئة والدعم لمقاتلين أجانب لتثبيت المنجزات في الشمال. فما قدرة هذه الدول على موازنة الروس؟ هل من مخاطر لاحتكاك تركي – روسي مباشر؟ أي جبهات سيُحرك هؤلاء لتخفيف الضغط عن جبهة الشمال؟
يستكمل الروسي اليوم ما بدأه الجيش السوري وحزب الله من تعطيل المناطق الحدودية (اللبنانية والأردنية)، خطوة تقييد الحدود الشمالية بالجهد الجوي الروسي، من المفترض أن يليها خطوة برية باتجاه الحدود العراقية بمساندة جوية روسية، وحينها في حال النجاح يمكن الحديث جدياً عن حل سياسي. إذاً، التدخل الروسي ليس للحسم بل لخلق ظروف لتسوية سياسية تصب في صالح الدولة السورية، فيما يقف الأميركيون قانعين بما حققوا من دمار وطامحين لموازنة دور إيران في سوريا بدور روسي، وتقليص المخاطر قدر المستطاع.