نيسان 96.. إنتاج وتكريس معادلة الردع المتبادل
جهاد حيدر
في نيسان العام 1996، شن جيش الاحتلال الصهيوني عدوانا واسعاً استمر 16 يوما، حمل اسم "عناقيد الغضب”، أمطر خلاله لبنان بآلاف الصواريخ والقذائف من الجو والبر والبحر، سقط خلالها نحو مئتي شهيد ومئات الجرحى. وتوقف العدوان مع التوصل إلى ما عرف بـ”تفاهم نيسان” الذي تضمَّن، من ضمن أمور أخرى، وقفاً متبادلا للهجمات . فمن جهة يتوقف حزب الله عن قصف المستوطنات مقابل توقف "الإسرائيلي” عن استهداف الأهداف المدنية في لبنان . ويلتزم الطرفان بعدم استخدام المناطق المدنية الآهلة والمنشآت الصناعية والكهربائية كقواعد لانطلاق الهجمات.
الان وبعد مضي قرابة العقدين على الانتصار الذي حققته المقاومة الاسلامية في مواجهة هذا العدوان يجدر التوقف عند بعض الأبعاد التي تجعل إحياء ذكرى التصدي له أمراً متواصلاً، رغم أن حجم الاحداث التي تلته كان يفترض أن تغطي على هذا الحدث وتحديدا تحرير العام 2000، وحرب العام 2006.
الامر المسلَّم به في حياة الشعوب أن إبقاء المقاومة حية في الذاكرة الجماعية والفردية للشعوب هو أمر مطلوب بذاته لاعتبارات ثقافية وسياسية وتعبوية.. لكن عملية الإحياء تصبح أكثر إلحاحاً ومسؤولية اذا ما أخذنا بالحسبان الحرب التي تتعرض لها المقاومة أيضا على المستوى الإعلامي والثقافي والسياسي . اضافة الى ضرورة تقديم المعطيات للذين لا يملكون تصورا واضحا وسليما عن مجريات الأحداث.
ومع العلم أن ما تلا العام 96 من أحداث كان مفصليا وتاريخيا.. إلا أنَّ للتوقف عند محطة عدوان نيسان قيمة مضافة. إذ يمكن الحديث عن نوعين متداخلين من الأبعاد انطوت عليها تلك المرحلة. الاول، كونها محطة من محطات المواجهة مع العدو وجزءا من معركة التحرير التي خاضتها المقاومة. والثاني، أن نتائجها أرست معادلات قيَّدت العدو ووفّرت للمقاومة مظلة سمحت لها بمواصلة مهمتها وصولا إلى تحرير العام 2000.
العدوان أسبابه وأهدافه
في الإطار العام، تعددت أساليب العدو في محاولات إحباط المقاومة وإجهاضها وردعها. وكان لكل مرحلة ظروفها وتكتيكاتها. واعتمدت سياسة الاغتيالات والسيارات المفخخة وعمليات الاحباط الاستباقي والاجراءات الدفاعية والامنية.. لكن تصاعد المقاومة وتواصلها وضع القيادة الإسرائيلية أمام استحقاق استمرار النزف البشري في صفوف جنود العدو وتلقي الضربات أو البحث عن خيار عملاني يُدمِّر قدرات المقاومة أو يردعها.
ساهمت الإنجازات التي حقتتها المقاومة في المراحل التي سبقت العام 96، في تعزيز قدرة ردع المقاومة خاصة خلال مواجهة العام 1993، الأمر الذي أدى في حينه إلى تقييد العدو عبر ما عُرف بتفاهم الكاتيوشا الذي يمتنع فيه حزب الله عن استهداف المستوطنات مقابل وقف العدو استهداف القرى والمدن اللبنانية. ومنح هذا التفاهم في حينه المقاومة هامشاً ترجمته في المزيد من العمليات المؤلمة. لكن هذا الواقع دفع العدو للبحث عن خيار للخروج من المأزق. فكان القرار بتكرار خيار العدوان الواسع على القرى اللبنانية. وكانت النتيجة تكريس معادلة الردع المتبادل.
إلى ذلك، كانت هناك اعتبارات سياسية خاصة بالقيادة الإسرائيلية الحاكمة التي تمثلت آنذاك بشمعون بيريس، والذي كان عليه أن يثبت قدرته على تحمل زمام القيادة عبر خوض حرب وتحقيق إنجاز يقدمه للشارع الإسرائيلي ليضمن فوزه في الانتخابات التي عاد وسقط فيها.
أما على الصعيد الدولي، يبدو أن قادة العدو كانوا يراهنون على الجو المحيط بعملية "عناقيد الغضب” في ظل غطاء دولي لهذه العملية، غير أن نتائج مواجهة استمرت ستة عشر يوماً كانت كفيلة بمفاجأة الصهاينة بخروجهم من عدوانهم بالمعادلة نفسها التي شكلت تأطيراً للتفاهم غير المعلن في عدوان تموز 1993.
نيسان96...تأسيس لمعادلة الردع
مفاعيل وتداعيات
لقد أثبت تفاهم نيسان أن المقاومة تمكنت من فرض معادلتها عبر انتزاع إقرار العدو بمشروعية، أو تكيفه مع استهداف جنوده المحتلين، ومن دون أن يكون له الحق باستهداف المدنيين كرد. والامر نفسه ينسحب على الدول الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة وفرنسا اللتان أشرفتا على تطبيق هذا التفاهم.
ويمكن القول، أن نجاح المقاومة في فرض معادلتها خلال جولات المواجهة مع العدو، وعلى رأسها عدوان نيسان العام 1996، سمح لها بمواصلة توجيه الضربات المؤلمة لجيش العدو بما أدى لاحقا إلى تحرير العام 2000.
ايضا، من أهم النتائج التي أسس لها انتصار المقاومة خلال عدوان نيسان 96، إحداث تحول في العقيدة العسكرية الإسرائيلية .
فقد استبعدت قيادة العدو الرهان على الحسم العسكري مع المقاومة، الامر الذي أجبرها على استبدال هذا المبدأ الذي يعتبر أساسا في استراتيجيتها القتالية، عبر اجتراح بديل يتمثل بمحاولة ردع المقاومة بدلا من الرهان على تدمير قدراتها. وهو ما تُرجم في حينه باستهداف العمق الجماهيري المدني للمقاومة من خلال اتباع سياسة تدمير واسع للقرى والمدن. وضمن هذا الاطار تأتي عمليات القتل والمجازر التي ارتكبها العدو في حينه وتحديدا مجزرة قانا.
على خط مواز راهن العدو على أن قدرات الجيش التكنولوجية والعسكرية ستتكفل بمنصات اطلاق صواريخ الكاتيوشا، الامر الذي سيضع حزب الله وجمهوره، أمام خيار تلقي الضربات من دون القدرة على توجيه ضربات مقابلة تحد أو تردع العدو عن مواصلة سياسته وصولا إلى فرض معادلة جديدة تمنع المقاومة من مواصلة عملياتها في الشريط الحدودي تحت طائلة تلقي أثمان مؤلمة رادعة.
لكن الذي حصل، ان المقاومة استطاعت حتى اليوم الاخير مواصلة اطلاق الصواريخ التي تستهدف العمق الإسرائيلي في الجليل، واثبتت قدرتها على الاستمرار في حال واصل العدو عدوانه.
كما أثبت جمهور المقاومة التفافه حول خيار المقاومة وأسقط رهان العدو على أن تدفعه الجراح والالام والشهداء إلى تغير موقفه.