أربع نبوءات
د. ناجي صادق شراب
بدلاً من أن يتجه الصراع العربي- "الإسرائيلي” بعد عقود من المفاوضات بين الطرفين الرئيسيين الفلسطيني و”الإسرائيلي” إلى تسوية نهائية، تضع حداً لأهم وأطول صراع، وشكل بؤرة للعديد من المنازعات في المنطقة، ومصدراً للعديد من الحروب التي شهدتها، وقد يكون أحد أهم تداعياته السياسية الخطرة ما تشهده المنطقة من صراعات أقرب الى الصراع والحرب الدينية، ببروز دور القوى الدينية المتشددة في كلا الجانبين، وبروز افكار دينية تعيد مفاهيم الحكم الذي يقوم على أساس ديني، وهذا من شأنه أن يؤجج الصراع ويحوله إلى صراع ديني يصعب حله. بدلاً من التسوية السياسية دخل الصراع العربي - "الإسرائيلي” مرحلة جديدة تعيد إرهاصات الحروب الصليبية والدينية التي عانتها المنطقة طويلاً.
وقبل الولوج إلى معالم هذه الحرب الجديدة وتداعياتها تسود وتتجدد في "إسرائيل” معتقدات وتصورات دينية غير حقيقية، لكن من شأنها أن تثبت المكون الديني للصراع، في إطار الأساطير اليهودية، وأولى هذه النبوءات التي ترى أنها تحققت كان قيام "إسرائيل” كدولة عام 1948، والنبوءة الثانية احتلال كل الأراضي الفلسطينية، وبعض أراضي الدول العربية، وهو ما يعني بالنسبة إليها اقتراب حلم قيام "إسرائيل الكبرى”، وأما النبوءة الثالثة التي تسعى إلى تحقيقها فهي بناء الهيكل، وهذا يأتي بالتوازي مع إصرار "إسرائيل” على الاعتراف بها كدولة يهودية، والنبوءة الرابعة تقف وراء الاستباحات المتكررة لباحات المسجد الأقصى، وعمليات الحفر، تحت مدينة القدس ومصادرة أراضيها، وتفريغها من سكانها، وتسييجها بمستوطنات أشبه بالمدن الكاملة، والإصرار على أن القدس هي عاصمة الأبدية، والفتاوى الدينية التي يصدرها الحاخامات التي تعمق الكراهية ضد كل ما هو فلسطيني.
أدت هذه الأعمال التحريضية والتهويدية إلى ردة فعل قوية لدى سكان المدن الذين هبوا للدفاع عن مقدساتهم الإسلامية والمسيحية، وأدت إلى استشهاد العديد منهم، وبدأت تلوح في أفق القدس ملامح وإرهاصات انتفاضة جديدة قد تمتد لتشمل كل الأراضي الفلسطينية، ولن يقتصر الأمر على ذلك بل قد تدفع الجاليات العربية والإسلامية في العديد من الدول الأوروبية وأمريكا إلى الثورة والاحتجاج على ما تقوم به "إسرائيل” من استباحة لمقدسات المسلمين والمسيحيين.
لقد انعكست هذه الروح الدينية المهيمنة على الفكر الصهيوني في العديد من المظاهر والصور، ولعل أبرزها الحروب الثلاث على غزة التي حملت مسميات دينية، وكذلك في فتاوى الحاخامات وفي التصريحات السياسية التي تصدر من قبل السياسيين "الإسرائيليين”.
والسؤال ما هي التداعيات والدلالات التي يمكن أن تترتب على تحويل الصراع إلى صراع ديني؟ خطورة هذه التوجهات تأتي في سياق الحرب العالمية على الإرهاب، وتشكيل تحالف إقليمي دولي من العديد من الدول ضد تمدد تنظيم "داعش” والتصدي لانتشار التيارات الإرهابية المتشددة، والتي تتجاهل ان هذا التشدد والتطرف ليس قاصراً على جماعات معينة، بل بدأ يكشف عن صفحات قديمة من التاريخ والصراع الديني الذي حكم المنطقة، وبدأ يعيد مفاهيم ومفردات عامة تعيد إنتاج هذا الصراع، وهنا يتم توظيف القضية الفلسطينية، وبما تحمله من مقدسات لتحقيق أهداف سياسية وقومية تحت غطاء الدين. والمعضلة في هذا التوجه الديني أن الفكر الديني لا يقبل الحلول الوسط التوافقية، بل يقوم على فكرة الإقصاء والإلغاء التام للطرف الآخر، أو الاعتراف به، وإمكانية التعايش معه ورفض فكرة المواطنة المدنية التي تقوم عليها الديمقراطية والتي تدفع في اتجاه الانصهار في بوتقة الدولة المواطنة الواحدة التي تقوم على فكرة الحقوق المدنية والسياسية وليس الدينية المطلقة.
إن مثل هذه التصرفات والأفعال تؤسس لما يسمى بالإرهاب والعنف والحقد والكراهية والثأر.
كل هذا يوضح لنا أهمية العمل للتوصل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية قبل أن تتأصل ظاهرة الحرب الدينية وعندها يصعب أن يخرج منها أحد سالماً.