حماس تتنازل عن السلطة لعباس سيرا على نهج الغنوشي واستيعابا لاخطاء حركة الاخوان الام.. !
عبد الباري عطوان
كلف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الدكتور رامي الحمدالله رئيس الوزراء الحالي بتشكيل حكومة الوفاق الوطني الجديدة المتوقع ان تضم 15 وزيرا من التكنوقراط ولكن عدم القاء السيد اسماعيل هنية رئيس الوزراء كلمة وداعية مثلما وعدت مصادر مقربة منه يؤكد ان هناك عقبات ما زالت تقف في طريق هذه الحكومة وتحول دون اعلانها في غضون ساعات مثلما كان متوقعا.
الخلافات تنحصر في عدة نقاط ابرزها تمسك الرئيس عباس بالسيد رياض المالكي كوزير للخارجية ورفضه الاسماء المقترحة من قبل حركة حماس مثل حنان عشراوي، مصطفى البرغوثي وزياد ابو عمرو، علاوة على استمرار الخلاف حول خمسة اسماء اخرى مرشحة من بينها اسم وزير الداخلية، حيث ما زال الدكتور الحمدالله مترددا في تولي هذه الحقيبة ذات الطابع الاشكالي والمتعلق بالاجهزة الامنية التابعة لسلطة الحركتين في الضفة والقطاع.
ويبدو ان تمسك الرئيس عباس بالتنسيق الامني بين اجهزته الامنية ونظيرتها الاسرائيلية من اسباب الخلاف الرئيسية الاخرى ايضا، ولم يكن من قبيل الصدفة ان يؤكد الرئيس عباس لوفد اسرائيلي زائر لمقره في رام الله ان هذا التنسيق "امر مقدس″ بالنسبة اليه لا يمكن ان يتخلى عنه، ولا نفهم مصدر هذه القداسة لدور امني مسخر لحماية العدو وجنوده ومستوطناته.
نعترف بان مهمة تشكيل الوزارة صعبة بل شبه مستحيله، ولكن ما نستغربه هو تمسك الرئيس عباس بالسيد المالكي والاصرار عليه وكأنه في كفاءة هنري كيسنجر وجون كيري في خبراته، فانجازاته والسلك الدبلوماسي الفلسطيني الذي يتزعمه محدودة للغاية، ولا نريد ان نقول سيئة، ولا نبالغ اذا قلنا ان معظم السفارات الفلسطينية التي يزيد عددها عن ثمانين سفارة، ويتمتع سفراؤها وموظفوها بامتيازات مالية ضخمة، خاصة تلك التي تتواجد في عواصم اوروبية وامريكية شمالية وجنوبية، تكاد تكون معدومة النشاط كليا، والاستثناءات محدودة جدا، ثم هل سنرى سفراء ودبلوماسيين من حركة حماس في هذه السفارات بلحاهم "الخفيفة” او "الكثيفة” طالما نحن نتحدث عن مصالحة وحكومة شراكة؟
***
نعم من الصعب تشكيل حكومة وفاق وطني بين كيانين منفصلين، وتنظيمين لهما ايديولوجيات شبه متناقضة، ولكن الامر يحتاج الى مرونة دون التفريط بأي من الثوابت الوطنية الفلسطينية مثل حق العودة واستعادة جميع الاراضي المحتلة وعلى رأسها القدس والمستوطنات، وهل سنرى مقاومة شعبية سلمية، ولا نقول عسكرية مكثفة، يتوحد فيها انصار التنظيمين المتحالفين؟
ولا نعرف كيف سيمارس رئيس الوزراء الفلسطيني ووزراء حكومته الجديدة مهامهم، وخاصة الوزراء من ابناء قطاع غزة، فاذا كانت اسرائيل منعت طباعة صحف القطاع وتوزيعها في رام الله، وهي موجودة اساس على الانترنت، فهل ستسمح لهؤلاء الوزراء بالقدوم الى الضفة دون معوقات وادارة شؤون وزاراتهم وحضور اجتماعات مجلس الوزراء مثلما يقتضي المنطق في حدوده الدنيا؟
بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي اعلن منذ اللحظة الاولى من مشاورات المصالحة معارضته لها، وخير الرئيس عباس بين اسرائيل وحركة "حماس″ وهدد بفرض عقوبات في حال اختار الثانية من بينها تجميد اموال السلطة العائدة من الضرائب على الواردات، وتقدر بحوالي 100 مليون دولار شهريا، ولا نعتقد ان هذا الموقف الابتزازي تغير حتى في ظل كونها، اي الحكومة الجديدة، من وزراء التكنوقراط والمستقلين.
مرونة حركة "حماس″ "غير المعتادة” كانت العامل الاكبر الذي سهل اتمام المصالحة وتشكيل هذه الحكومة في رأينا، فالحركة قدمت تنازلات كثيرة من واقع الطرف المحاصر المعزول عربيا وعالميا، والعاجز عن الايفاء بالتزاماته المالية الضرورية تجاه حوالي 40 الف موظف مدرجين على لوائح الحكومة وميزانيتها الشهرية ولا ننكر ايضا ان حركة "فتح” تعيش ازمة ايضا، عنوانها فشل رهان سلطتها على المفاوضات وانهيار حل الدولتين وتكرس عزلتها الجماهيرية والعالمية والعربية في الوقت نفسه.
الاختراق الاكبر في رأينا جاء عندما انتصر الجناح "البرغماتي” داخل "حماس″ الذي طالب بتسليم السلطة في قطاع غزة الى رام الله والتخفيف من اعبائها الثقيلة جدا وكسر الحصار المفروض على الحركة والعودة الى مرحلة ما قبل الانقلاب العسكري والسياسي الذي اطاح بحكم حركة "فتح” للقطاع في اطار سلطة رام الله، واعادة معبر رفح الى اشراف حرس الرئاسة في رام الله لقطع كل الذرائع المصرية التي استخدمت لتبرير اغلاقه بطريقة ادت الى خنق مليوني انسان وتدمير اقتصادهم وتعطيل مصالحهم، موت مرضاهم.
حركة "حماس″ ادركت ان الزمن يتغير وحلفاءها يتناقصون في الوقت نفسه فقررت، مصيبة، اجراء مراجعة سياسية جذرية لكل سياساتها ومواقفها السابقة وتوصلت الى قرارات ابرزها العودة الى محور المقاومة، بعد ان خذلها المعسكر الآخر وساهم في حصارها، والسير على نهج نظيرتها في تونس، ونحن نتحدث هنا عن حركة "النهضة” التي تنازلت كليا عن السلطة لحكومة من التكنوقراط لمنع حدوث حرب اهلية في البلاد، ولكن دون ان تتخلى عن طموحاتها السياسية في خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة وتشكيل الحكومة من جديد اذا فازت بالاغلبية.
الشيخ راشد الغنوشي كان ذكيا للغاية عندما استفاد من تجربة حركة الاخوان المسلمين في السلطة في مصر رغم قصرها، والاخطاء الكبيرة التي ارتكبتها في ادارتها لشؤون البلاد لاعتبارات نردها الى نقص الخبرة، ابرزها الممانعة في التعايش مع الآخرين، والتيارات الليبرالية واليسارية على وجه الخصوص وبصورة اكثر ايجابية والتحالف مع السلفيين الذين طعنوها في الظهر، واختيار الفريق السيسي كوزير للدفاع وقائدا للجيش لانه يؤدي الفروض الخمسة يوميا، ويبدو ان حركة "حماس″ وبعد ان خنقها الحصار الرسمي المصري منذ حدوث انقلاب المشير السيسي، وتدمير الانفاق، ومنع وصول الاموال اليها، قررت ان تستفيد من تجربة حركة النهضة وتتراجع الى المقاعد الخلفية ولو مؤقتا انتظارا لحدوث تغييرات في المعادلة السياسية العربية والدولية الراهنة.
***
فلم يكن من قبيل الصدفة ان يشهد قطاع غزة وللمرة الاولى مظاهرات احتجاجية شارك فيها المئات من عناصر الجناح العسكري، ينتمون الى كتائب عز الدين القسام ويرتدون بزاتهم العسكرية، احتجاجا على قرار فصلهم بعد اغلاق دائرة "الانفاق والحدود” بسبب الحصار المصري، فهذه المرة الاولى التي تتمرد عناصر عسكرية ضد القيادة السياسية وقراراتها، ومن غير المستبعد ان تتمرد مجموعات اخرى خاصة ان رواتب موظفي الحركة لم تدفع منذ ستة اشهر علاوة على ذلك وجود خلافات حول المصالحة مع "فتح” واستمرار التمسك بالهدنة مع اسرائيل.
دعوة الدكتور احمد يوسف المستشار السياسي السابق للسيد اسماعيل هنية رئيس الوزراء في غزة الى تشكيل حزب سياسي جديد لحركة "حماس″ يأخذ الطابع المدني ويفتح المجال امام عضوية النساء والمسيحيين، ويواكب تغييرات المنطقة للخروج من ازمة الحركة الحالية على حد وصفه قد يكون اول خطوة للانسحاب من الحكومة والسلطة معا والتخلص من الاعباء الادارية والمالية.
الدكتور يوسف متخصص في اطلاق بالونات الاختبار وتمثيل الجناح المعتدل المرن في حركة "حماس″ ولا نعتقد ان يكون مدعوما من بعض قيادات الحركة في اطار البحث عن مخرج من الازمة الخانقة الحالية التي تعيشها.
حركة "حماس″ انحنت امام العاصفة وتصرفت كحركة سياسية، من اجل البقاء، وهذا ما يفسر تنازلها عن السلطة في غزة، ودخول الحكومة الجديدة بالحد الادنى من الشروط، وهذا عين العقل في نظر الكثيرين بعد ان خذلها الكثيرون ايضا.
المسألة الاهم التي لا نستطيع القفز فوقها بعد التوصل الى المصالحة وحكومة التوافق هذه، ان المشهد السياسي الفلسطيني بات خاليا من اي معارضة حقيقية على الرئيس عباس وسلطته، فقد حصل على تفويض لم يحلم به من منافسيه، ويستطيع ان يعود الى المفاوضات والتنسيق الامني وربما اتفاقات وتنازلات وهو مطمئن وهنا تكمن الكارثة الكبرى في رأينا.