kayhan.ir

رمز الخبر: 119324
تأريخ النشر : 2020September16 - 19:57

لماذا ترفض بغداد مشاريع التطبيع مع "تل ابيب"؟

عادل الجبوري

تؤشر مجمل المواقف والتوجهات الرسمية وغير الرسمية العراقية على امتداد سبعة عقود من الزمن الى رفض الوجود الصهيوني في فلسطين، ورفض كل مشاريع التطبيع التي أقدمت عليها بعض الأطراف العربية والاسلامية.

قد تكون هناك استثناءات، وقد تكون هناك مواقف وخطوات وتحركات غير معلنة من هذا الطرف أو ذاك في مرحلة أو مراحل ما، بيد أن تلك الاستثناءات والمواقف والخطوات والتحركات غير المعلنة، لم تؤثر على المسار العام ولم ترسم صورة أخرى ولم تبلور انطباعات غير تلك التي ترسخت في الأذهان.

حقائق ومصاديق

ولعل المتابع لا يحتاج الى كثير من الجهد والوقت للعثور على حقائق وأمثلة ومصاديق لعموم المواقف والتوجهات العراقية الرافضة لـ"اسرائيل" كوجود هجين واحتلال ظالم لأرض أو أراضٍ عربية فيها رموز دينية - اسلامية مقدسة.

ففي الحرب العربية - الاسرائيلية الأولى في عام 1948 بعد تأسيس الكيان الصهيوني، شارك العراق بعدد كبير من المقاتلين، وكان دوره وحضوره فاعلًا في عدد من محاور القتال، وفي حرب 1967، شارك الجيش العراقي مرة أخرى بقوات مدرعة، وكانت مشاركته على نطاق أوسع في حرب اكتوبر 1973 بقوات برية وجوية، حيث قدم أكثر من ثلاثمائة شهيد بعضهم من الضباط الطيارين.

هذا على الصعيد العسكري الميداني، أما على الصعيد السياسي، فقد كان الموقف العراقي واضحًا الى حد كبير من مبادرة السلام التي أطلقها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته المفاجئة لـ"تل ابيب" في تشرين الثاني - نوفمبر من عام 1977، والتي تبعتها زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذلك الحين مناحيم بيغن للقاهرة، لتتكلل في نهاية المطاف بإبرام اتفاق كامب ديفيد برعاية اميركية في اذار-مارس 1979. حيث كان العراق سباقًا الى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر كما فعلت أغلب الدول والحكومات العربية، ولم تخرج المواقف العراقية حيال مجمل خطوات مسيرة التسوية العربية مع "تل ابيب"، من اتفاق وادي عربة مرورًا باتفاقيات مدريد واوسلو وواي بلانتيشن وغيرها، لم تخرج عن سياق الموقف الرافض، رغم أن سياسات نظام حكم حزب البعث ألحقت الضرر بالقضية الفلسطينية، وساهمت بإضعاف المواقف العربية ضد "تل ابيب"، ولعل الحرب العراقية - الايرانية (1980-1988)، وكذلك غزو دولة الكويت وحرب تحريرها (1990-1991)، تعد أمثلة ومصاديق شاخصة على ذلك.

وبينما كانت واشنطن و"تل ابيب" وأطراف أخرى، تأمل أن تساهم الظروف والأجواء التي أفرزتها عملية الاطاحة بنظام صدام، والمساحة الواسعة من الحرية والانفتاح التي توفرت بعد ذلك، في تمهيد السبيل لمد الخطوط والجسور بين بغداد و"تل ابيب"، برزت اتجاهات مضادة معاكسة ورافضة تمامًا لأي مشاريع ومخططات من هذا القبيل.

ربما نجح الكيان الصهيوني، من خلال توظيف أدوات الحرب الناعمة، اعلاميًا ومخابراتيًا، في تحقيق بعض الاختراقات في المنظومة السياسية والثقافية والاجتماعية والأمنية العراقية، بيد أن مثل ذلك النجاح لم يكن كافيًا لاحداث تحولات ومتغيرات يعتد بها، وأبسط دليل، أنه لم يجرؤ حتى الآن أي طرف سياسي أو غير سياسي عراقي على الترويج والتشجيع على اقامة علاقات مع "تل ابيب"، ويمكن أن تكون ردود الأفعال الغاضبة على الزيارة التي قام بها النائب السابق في مجلس النواب العراقي مثال الالوسي في ايلول-سبتمبر من عام 2008، والذي كشف فيما بعد أن النائب الحالي فائق الشيخ رافقه في زيارته، لكنه طلب التكتم على الموضوع وعدم التقاط أي صور له، يمكن ان تكون مقياسا لحقيقة المزاج والموقف الرسمي والشعبي العراقي تجاه "تل ابيب".

وحينما نقترب كثيرًا من الواقع الراهن، فإننا نجد في مواقف مختلف القوى والشخصيات السياسية والدينية والمجتمعية العراقية الرافضة والمستنكرة لاتفاقيات السلام الاخيرة بين كل الامارات العربية المتحدة والبحرين والكيان الصهيوني برعاية ومباركة الولايات المتحدة الاميركية، تعزيزًا وتأكيدًا وترسيخًا للموقف التقليدي المعروف.

التطبيع .. خط أحمر!

ولعل الأمر المهم يتمثل في أنه بالاطار العام، تتفق مختلف المكونات والقوى والتيارات المجتمعية والسياسية والفكرية العراقية على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، علمًا أن طبيعة تركيبة ونسيج المجتمع العراقي والعوامل المساهمة والمؤثرة في بلورة مواقفه واتجاهاته المختلفة، نادرًا ما تتيح التوحد والاجماع على رؤية موحدة حيال قضية معينة.

لماذا يرفض العراق، كمنظومة سياسية ومجتمعية، على طول الخط، التطبيع مع الكيان الصهيوني؟

من خلال مجمل المواقف العراقية حيال القضية الفلسطينية ومشاريع التطبيع على امتداد أكثر من سبعين عامًا، يمكن التأشير الى نقاط محددة وواضحة بهذا الشأن:

أولًا: تقوم الرؤية العراقية على حقيقة أن الكيان الصهيوني وجود شاذ وغير قانوني، تشكل عبر مؤامرات دولية على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية الأصيلة على أرضه، وقد اعتمد ذلك الكيان في ترسيخ وتكريس وتوسيع وجوده على الحروب والعنف والارهاب، لذا من الخطأ اللجوء الى خيار السلام مع كيان لا يمت الى السلام بأي صلة.

ثانيًا: يمتلك العرب امكانيات ونقاط قوة كثيرة وكبيرة، بيد أنه لم يتم استثمارها وتوظيفها بالشكل الصحيح في مواجهة الكيان الصهيوني والداعمين والمساندين له، وبدلًا من أن يكون هناك موقف عربي موحد ومتماسك، تسببت مظاهر التشظي والتفكك والانقسام بين الانظمة والحكومات العربية بمستوى فاضح من الضعف والخنوع والانكسار العربي، استغله الكيان الصهيوني بصورة خبيثة ليحقق يومًا بعد آخر المزيد من المكاسب.

ثالثًا: أثبتت التجارب أن انتهاج الخيار السلمي القائم على المفاوضات من قبل بعض الأطراف العربية - وآخرها البحرين والامارات - لم يفض الى أي نتائج ايجابية، لأن المنطلقات والأسس التي كانت تقوم عليها المفاوضات خاطئة وغير واقعية ولا متكافئة، وغالبًا ما كانت تستند الى مصالح وحسابات ضيقة، بحيث إنه بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على ابرام اتفاقية سلام بين مصر والكيان الصهيوني، وأكثر من خمسة وعشرين عامًا على ابرام اتفاقية مماثلة بين الأخير والأردن، تمخضت عنهما اقامة علاقات دبلوماسية وتبادل فتح السفارات، الا أن التطبيع الحقيقي بين الشعوب والمجتمعات لم يتحقق، وبقي الكيان الصهيوني بنظر المواطن المصري والاردني كيانًا عدوانيًا غاصبًا لا يمكن بأي حال من الأحوال التصالح والتعايش معه.

رابعًا: رغم التوجهات السلمية الانهزامية لبعض الأنظمة والحكومات العربية، خلال الأعوام القلائل الماضية، الا أنه في مقابل ذلك اتسعت ميادين وجبهات الرفض والمواجهة لـ"تل ابيب" - سياسيًا واعلاميًا وثقافيًا وعسكريًا - حتى أن التقديرات والقراءات العامة لتلك التوجهات الاستسلامية، تؤشر الى أنها لم توفر الأمن والاطمئنان والاستقرار الحقيقي للكيان الصهيوني، بل ربما في جوانب مختلفة تكون قد عمقت أزماته ومشاكله، لسبب بسيط يتمثل في أنه كلما زادت موجة الانبطاح والاستسلام للصهاينة من قبل البعض، تصاعدت وتيرة المقاومة، وتعددت أشكالها وصورها وأساليبها وأدواتها.

هذه هي الصورة العامة لما تراه بغداد لمشاريع التطبيع، سواء انطلقت من القاهرة أو من عمّان أو من ابو ظبي أو من المنامة أو غيرها من العواصم العربية، المعلن منها أو المستور، لا فرق في ذلك بالمرة!